كتب د . احمد الدرزي | صدام الفوالق الزلزالية وتصدُّع الفوالق الجيوسياسية

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

أكدت التفسيرات العلمية لآلية الحدث الزلزالي الأخير، بالقرب من الحدود السورية، تعرض صفيحة الأناضول المستمر منذ بدء تشكل الأرض، لضغط الصفيحة العربية من الجنوب، التي هي على تماس مع الصفيحة الأفريقية، أو ما يسمّى الفالق العربي الأفريقي، الممتد عبر البحر الأحمر، قاطعاً الأردن وسوريا في اتجاه الشمال، بالإضافة إلى تعرضها للضغط المستمر من الصفيحة الأوراسية، ما أدى إلى تلاقي القوتين الضاغطتين، والدفع نحو انفجار طاقة هذه القوى بزلزال أرضي، تسير ارتداداته على خطوط الفوالق، في منحى لعودة الاستقرار في هضبة الأناضول ومحيطها.

لا يختلف الوضع الجيوسياسي للمنطقة الأكثر اضطراباً في تاريخ العالم، عن حدثية الزلزال الطبيعي، إذ عرفت خلال العقدين الماضيين تحوّلات متراكمة ومتصاعدة، منذ أن استلم فلاديمير بوتين السلطة في روسيا، وبدأ العمل على إعادة الاعتبار إلى روسيا، بتبنّيه المشروع الأوراسي، الذي يعبِّر عن المسارات الطبيعية، الواجب اتخاذها لإنجازه، وهو المشروع الذي يرتكز على الواقع الجيوسياسي لبعدين إمبراطوريين تاريخياً، بأبعادهما الثقافية والسياسية، وهما إيران وتركيا، وهذا ما وفَّرته الساحة السورية للمواجهة الدولية والإقليمية لكل الأطراف، رغم التناقض الكبير في الرؤية نحو الحدث السوري، وتحديد حجم الأدوار لكل الأطراف، ورغم بدء تغير المواقف بشكل واضح، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.

الارتدادات الداخلية الأولى كانت على تركيا، فحجم الدمار الهائل، وضع الرئيس التركي في موقع لا يُحسد عليه، في مواجهة خصومه الداخليين، وخاصةً أنه الرئيس صاحب أطول فترة حكم، في تاريخ تركيا المعاصر، وعلى مدى عشرين عالماً، ما جعله يتحمّل المسؤولية الكبرى عن نتائج الكارثة.

وعلى الرغم من النهضة الاقتصادية الهائلة التي حصلت في تركيا، فإن ذلك لم يشفع له انكشاف ضعف فريقه الاقتصادي، الذي كان مسؤولاً عن حركة البناء العقاري، وهو ما جعل توافقه مع سوريا موضوعاً ثانوياً، والتوجه نحو ترميم صورته الداخلية، بعد أن انقضّت عليه المعارضة السياسية، بانتظار وضوح كامل النتائج التدميرية للزلزال، وفقدانه القدرة على شد العصب التركي في مغامرة عسكرية جديدة بما تبقى من الشمال السوري.

 

قد يختلف الوضع في سوريا داخلياً، بفعل الإنهاك الشديد لسوريي الداخل، فإن هذا الحدث قد أظهر صورة مختلفة للتباين الانقسامي فيما بينهم، إذ وحَّدتهم الكارثة من خلال البعد الإنساني، فأعطوا مؤشراً إيجابياً، يمكن البناء عليه، للعمل على صوغ مستقبل جديد ومختلف عمَّا سبق، حالما تتوفر الإرادة لذلك.

ولم يختلف الوضع على المستوى الإقليمي، إذ وصلت ارتدادات الزلزال إلى تونس، لتكسر الحظر المفروض على دمشق، وترفع مستوى التمثيل السياسي، وتُظهر تبايناً بالتعاطي الإغاثي، الذي حمل بطيّاته موقفاً سياسياً واضحاً، تبعاً للثقل الاقتصادي والسياسي للدول العربية، فظهرت اندفاعة الإمارات العربية المتحدة بشكل كاسر لكل العقوبات على سوريا، على عكس المملكة العربية السعودية، التي ما زالت مترددة في العودة إلى دمشق حتى الآن، بأثمان تطلبها في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وهي الساحات الأساسية التي ترسم حجم دورها الإقليمي، مقابل الدور الإقليمي المتصاعد لإيران، رغم المساعدات الإغاثية المعدودة التي وصلت، بالانطلاق من مطار الرياض إلى دمشق، والتي لا تنسجم مع القدرات المالية للمملكة، والشيء الوحيد الذي تشير إليه الطائرات الثلاث، أن الارتداد الجيوسياسي لم يصل بالقوة المطلوبة إلى الرياض، والإشارة الوحيدة له هو إمكانية تغيير الرياض حساباتها السياسية نحو إقليم مختلف عن الوضع السائد كمرحلة انتقالية.

وقد يكون العراق، رغم الانقسام السياسي الصارخ للسياسيين، بين الولايات المتحدة وإيران، وأثر العاملين التركي والسعودي، فإن مستوى العلاقة مع سوريا ارتفع بشكل كبير، انطلاقاً من هذا الانقسام ذاته، باندفاعة الحشد الشعبي نحو كسر الحدود، وإرسال المساعدات للمنكوبين السوريين، رغم التهديد الأميركي بقصف قوافله المتجهة إلى سوريا، ووجوده المكثف والفاعل على الأرض، كتعبير عن العمق الجيوسياسي المشترك بين العراق وسوريا، ضمن إطار الهلال الخصيب، وهو يمثل توجهاً رسمياً للحكومة العراقية، بعد تواصل ممثله صالح الفياض مع دمشق، باسم رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

وبدوره، لبنان المنقسم دفعت به الارتدادات إلى الاصطفاف إلى جانب سوريا رسمياً وسياسياً، ولكن الصدى الأهم لذلك، هو حسم نصر الله للموقف تجاه ما يحاك للبنان وسوريا، والتصعيد إلى مستوى التهديد المباشر لنشر الفوضى داخل “إسرائيل”، باعتبارها الرأس المتقدم للسياسات الأميركية والغربية، ونقطة ضعفه الكبرى، وخاصةً بعد ارتفاع مستوى الشراكة الاستراتيجية، بين إيران وروسيا، من البوابة الأوكرانية، وتوسعها في المحيط الإقليمي، بالإضافة إلى دخول البعد الصيني، بعد زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لبكين.

تسبب الزلزال الطبيعي، الذي كسر الحدود السياسية بين تركيا وسوريا، في ارتدادات سياسية قد تتوافق إلى حد ما مع شدة الزلزال، وهي غير مستقرة حتى الآن، مع استمرار الزلازل الطبيعية، في إشارة إلى استمرار الزلازل السياسية، وقد لا نستطيع التنبؤ بالوضع السياسي لسوريا ومحيطها الإقليمي، إلا بعد استقرار الصفائح التكتونية الأرضية والسياسية، وخاصةً ما يتعلق بالانتخابات التركية، التي يتوقف عليها كثير من الحسابات الإقليمية والدولية، فما بعد الزلزال ليس كما قبله.

Exit mobile version