كتب د . احمد الدرزي | سوريا ومحيطها المتفجر… ما المخرج؟

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

ما إن بدأت نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية بالظهور، وحصول حزب القوات اللبنانية على كتلة كبيرة في لبنان، حتى بدأت تنعكس تهديدات على سوريا، من لبنان، الذي يعتبر الخاصرة الرخوة لها، لتكون هذه الانتخابات خطوة جديدة نحو تطويق سوريا، وتفجيرها داخلياً، فما هي آفاق عودة تفجير ما تبقى من سوريا؟

لم تكن الانتخابات البرلمانية اللبنانية سوى وجه جديد من الصراع الدولي والإقليمي في منطقة غرب آسيا، الذي انفجر مع وصول الفوضى الأميركية “الخلاقة” إلى سوريا، في منتصف شهر آذار/ مارس عام 2011، بعنوان “الربيع العربي”، بعد أن رفضت دمشق السماح بمرور خط الغاز القطري، إثر الاجتماع الذي ضمّ كلاً من أمير قطر حمد بن خليفة، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب إردوغان، والرئيس السوري بشار الأسد، في دمشق، بتاريخ الرابع من شهر أيلول/ سبتمبر 2009، بغاية استبعاد روسيا من الإمساك بمصير أوروبا، التي تمدّها بنسبة 40 % من الغاز، إضافة إلى النفط.

كان الرفض السوري للعرض الأميركي، المليء بالمغريات المالية والسياسية، بمنزلة إعلان نهاية اللعب على التوازنات الإقليمية بين الأطراف المتناقضين إقليمياً ودولياً، وتثبيت التموضع الجيوسياسي مع روسيا وإيران، بشكل نهائي، رغم الأثمان الباهظة التي سيتسبّب فيها هذا التموضع، في ظل حسابات سياسية داخلية وخارجية لا مفرَّ منها، وبيئة سورية داخلية غير قابلة للضبط، في مواجهة التسونامي الأميركي، بفعل تصورات عن الواقع الداخلي لم تكن مطابقة له.

كان الأميركيون في سباق مع الزمن قبل بدء الحرب في أوكرانيا؛ فهم خاضوا مجموعة من الحروب الناعمة في غرب آسيا، تمثلت إحداها في إغراء إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عنها مقابل تغيير مسارات سياساتها الإقليمية المناهضة لأميركا، وفي الوقت نفسه كانت الأخيرة تواجه إيران في العراق، بدفع كل من تركيا والسعودية والإمارات إلى التلاعب بالنسيج العراقي المنقسم على نفسه، عبر الانتخابات البرلمانية المشكوك في أمرها، وتمكين تحالف الثلاثي مقتدى الصدر ومحمد الحلبوسي ومسعود البرزاني من الفوز في الانتخابات وتشكيل أكبر كتلة برلمانية، للاصطفاف مع الدول الثلاث، لمواجهة إيران في العراق، وإغلاق الحدود الشرقية في وجه سوريا، ومنع الحشد الشعبي من أي دور فاعل على جانبي الحدود، ما رفع من مستوى التهديدات على سوريا، التي تعتبر العراق عمقاً تاريخياً لها، مثلما يعتبر العراق سوريا عمقاً تاريخياً له.

ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، ظهرت الدوافع الحقيقية للحرب في سوريا، والتي أكدت أن الصراع الدولي بالأساس هو على أوروبا، من باب السيطرة على منابع الطاقة (الغاز والنفط)، التي تمثل دماء الدول لبقائها على قيد الحياة، وتحدد قيمتها إذا ما أحسنت الدول المنتجة لها استثمارها في التنمية وبناء القوة، كما فعلت روسيا وإيران، فكان لهذه الحرب أثر كبير على الداخل السوري اقتصادياً.

ودفعت الحرب الأوكرانية القيادة الروسية إلى نقل الجزء الأكبر من قواتها البرية إلى أوكرانيا، والتنسيق مع دمشق وطهران لملء الفراغ الروسي الجزئي بقوات عسكرية تقودها إيران، وخاصةً بعد زيارة الرئيس الأسد لطهران، ما دفع كلاً من تركيا و”إسرائيل” إلى إرسال رسائل نارية إلى كل من دمشق وموسكو وطهران، من خلال استهداف سيارة نقل عسكرية سورية في شمال غرب حلب، على أيدي قوات مرتزقة سوريين، والتسبّب في استشهاد عشرة جنود سوريين، وفي اليوم نفسه قصفت الطائرات الإسرائيلية منشآت عسكرية سورية قيد الإنشاء في مصياف، ما تسبّب في استشهاد خمسة من الضباط والجنود السوريين، وترافق ذلك مع خطوة أميركية خطرة جداً على مستقبل سوريا كدولة موحدة، من خلال استثناء منطقة شمال شرق سوريا، الخاضعة للاحتلال الأميركي المباشر، وشمال غرب سوريا الخاضعة للاحتلال التركي، من جزء كبير من عقوبات قيصر، بما يتيح لهاتين المنطقتين نموّاً اقتصادياً كبيراً بدعم غربي وخليجي، يجعلهما بعيدين بشكل شاسع عن مناطق سيطرة دمشق، وبالتالي سيدفعهما نحو الانفصال التلقائي، وحرمان الأغلبيّة السورية بشكل دائم الموارد الغذائية والنفطية لأخصب المناطق التي يحتلها الأميركي والتركي.

وعلى الحدود الغربية أيضاً تحرك الأميركيون على مدى سنوات في الداخل اللبناني، وعملوا على إفراغ خزائن البنوك اللبنانية، بسرقة أموالها، من قبل أثرياء الحرب والسلطة، وإغراق لبنان في الظلام وضغوط العيش، بعد انهيار قيمة الليرة اللبنانية، والدفع نحو تغيير المزاج الشعبي، بعنوان نزع سلاح المقاومة، بتحميلها مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع اللبنانيين، والوصول إلى الانتخابات البرلمانية، لتغيير الكتلة النيابية، بدفع حزب القوات اللبنانية إلى صدارة المشهد السياسي اللبناني، اعتماداً على التجييش الطائفي المذهبي، والعمل على رفع الغطاء الرسمي عن سلاح المقاومة، والذهاب نحو الحرب الأهلية، ما يجعل من الخاصرة الرخوة لسوريا (لبنان) تهديداً مكملاً للتهديدات التركية والأميركية في الشمال، والتهديدات العراقية في الشرق، إضافة إلى تهديدات الجنوب المستمرة، إن كان من “إسرائيل” مباشرةً، أو من الأردن الذي لا يملك قراره، بتفعيل جبهة الجنوب، التي لم تهدأ بعد، وتموج بالتحركات العسكرية غير المنضبطة، مع بقاء قوات أحمد العودة التي تدعمها الإمارات و”إسرائيل”.

هذه المخاطر المتعاظمة على سوريا لا يمكنها أن تواجهها وحدها، فهي بالأساس تدفع ثمن اصطفافها مع القوى الدولية والإقليمية المناوئة لواشنطن، وخاصةً روسيا وإيران، وهي بأمسّ الحاجة إلى قلب المعادلات الإقليمية عسكرياً، وكل تأخير عن ذلك سيجعل من الأميركيين أكثر اندفاعاً، بالهجوم المتعدّد الأوجه، عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وسياسياً، ويترتب على ذلك تضاؤل فرص استعادتها عافيتها، وقد يصل الأمر إلى حدّ الوصول إلى حالة استنفاد الفرص، وعدم القدرة على التنبّؤ بمآلاتها النهائية، إن كان باستعادة وحدتها وحدودها، أو كان بعودة مواطنيها، الذين تشتّت جزء كبير منهم في أصقاع الأرض.

وهي تحتاج إلى حلفائها للخروج من وضعها المتأزم، اقتصادياً بالدرجة الأولى، وعسكرياً بالدرجة الثانية، لتشكيل حالة ردع لكل من تركيا و”إسرائيل” والولايات المتحدة، ومن ثم الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم تجاه الدول الثلاث، من داخل سوريا والعراق وفلسطين ولبنان، ويساعدها في ذلك مفرزات الحرب الأوكرانية المستمرة، وما تركته من آثار على بدء تغير التصور الروسي للمنطقة، بعد تورّط تركيا و”إسرائيل” في الحرب الأوكرانية، وهذا ما دفع موسكو إلى إطلاق صاروخ S300، باتجاه الطائرات “الإسرائيلية” في اعتدائها الأخير.

وهذا بطبيعة الحال لا يكفي، فالأهم من ذلك هو إرسال دمشق إشارات إيجابية متلاحقة إلى الداخل السوري، الذي أنهكته الحرب الطويلة، وتعاظم مفرزات اقتصاد الحرب، التي أسهمت في إنهاك السوريين، ويمكن لهذه الإشارات أن تلعب دوراً أساسياً في تهيئة المناخ المناسب للسوريين، كي يعيدوا ترتيب أولوياتهم، بما يَصبّ في استعادتهم لبلدهم، وبنائه بصيغة جامعة جديدة.

Exit mobile version