الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
دخلت سوريا في مرحلة جديدة خلال الأشهر الماضية، وهي ما زالت مستمرة بشكل أوسع، بعد أن بدأت جدران العزلة الإقليمية بالانهيار، وتغيّر المزاج العام المحيط بها، من دون أن ينعكس ذلك على الوضع الاقتصادي للسوريين، بل ترافق مع ازدياد انهيار سعر الصرف لليرة السورية أمام العملات الصعبة، فأيّ آفاق مفتوحة أمام السوريين؟
مرَّت سوريا بثلاث مراحل أساسية خلال الكارثة الحالية، فهي دخلت في مرحلة ما يسمّى “الربيع العربي” والذي ترتَّب عنها حرب أهلية بامتداداتها الإقليمية والدولية، ممّا حوّلها إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، أدَّى إلى حدوث انقسامات عمودية وأفقية في بنية المجتمع السوري، فأصبحت من خلال ذلك الساحة الأساس للصدام الإقليمي والدولي، نحو تثبيت وقائع نظامين إقليمي ودولي جديدين.
أدركت الأطراف الإقليمية الأساسية، التي خاضت صراعاتها على الساحة السورية، بأنّ هناك متغيّرات كبرى على المستوى الدولي، بعد أن دخلت إيران وروسيا بشكل مباشر في الحرب السورية، وخاصةً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين دخلتا بشكل مباشر في الحرب اليمنية، وما ترتَّب عن ذلك من إعادة النظر بمجمل السياسات المتبعة، بالاعتماد على قدرات الولايات المتحدة كقوة عظمى لتأمين حمايتها من الأطماع الدول الأخرى.
بدأت ملامح جديدة لطبيعة الصدام الإقليمي والدولي في سوريا بعد انتقال الحرب إلى أوكرانيا، ووقوف السعودية والإمارات وتركيا وإيران إلى جانب روسيا من الناحية الفعلية، وبمستويات متباينة، عسكرياً أم اقتصادياً وسياسياً، وهي بالأساس الدول الإقليمية الرئيسية التي تصادمت في الساحة السورية. وترافق ذلك مع بروز توجّهات جديدة للعملاق الصيني بعد أن أيقن بضرورة الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم السياسي لمواجهة الغرب، مما جعل من هذا العملاق الجديد الراعي الأكبر الأكثر أماناً لكل هذه القوى الإقليمية.
تشكّلت معادلة جديدة بعد دخول الراعي الصيني، خاصةً بعد أن وصل الجميع إلى نهاية الطريق المسدود، بأنّ استمرار الصدام سيستنزف كل مقدّرات هذه الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية متباينة المستويات، وأن هناك إمكانية للخروج من معادلة رابح-خاسر، إلى معادلة رابح-رابح، يستطيع الجميع أن يصلوا إليها من خلال إنهاء الصدام الإقليمي في سوريا، والانتقال إلى مرحلة التعاون والتنسيق فيها، كمقدّمة لبناء نظام إقليمي جديد ينسجم مع النظام الدولي الجديد متعدّد الأقطاب والسياسات والثقافات.
نقَلَ قرار عودة سوريا إلى الجامعة العربية، بضغط سعودي كبير على كل الدول المعترضة على ذلك، المنطقة إلى آفاق جديدة من العمل، فقد أصبح الجميع مدركاً بأن الصراع في سوريا يجب أن ينتهي وفقاً لمعادلات جديدة مختلفة عمّا سبق، وتقتضي اعتراف الجميع بمصالح الجميع، بما في ذلك سوريا، التي بدأت تنسج علاقات جديدة مع خصوم الأمس والأصدقاء القدامى المستمرين، والانتقال إلى مرحلة جديدة تستطيع أن تغيّر من متطلّبات المرحلة الجديدة التي لا بدّ منها على مستوى الداخل السوري.
تؤمِّن العودة إلى الجامعة العربية لسوريا أوراقاً جديدة كمكاسب في المفاوضات الرباعية مع تركيا، وخاصة بعد لقاء وزراء الخارجية الأربعة في موسكو، حيث وصل وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، متسلّحاً بموقف عربي موحّد لأوّل مرّة، يريد أمرين أساسيين، هما تحقيق الاستقرار والأمن، خاصةً على الحدود السورية، لمنع تدفّق المخدّرات إلى دول الخليج، والثاني هو تأكيد الهوية العربية لسوريا.
وهي بذلك تخدم الموقف السوري للضغط على تركيا المحتاجة إلى السعودية ودول الخليج الأخرى اقتصادياً لدفعها للإقرار بالواقع الجديد، بالانسحاب من مناطق الشمال السوري التي احتلتها، وتفكيك المجموعات المسلحة الموجودة هناك، إضافة إلى حاجة تركيا الشديدة للممرّ السوري نحو دول الخليج وشمال أفريقيا، لتنشيط الاقتصاد التركي الذي يتعرّض لضغوط كبيرة.
جاءت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق في ذروة الحراك الإقليمي، وخاصة بعد التقارب السعودي الإيراني المتسارع، بعد لقاء بكين، لتأكيد نوعية العلاقات مع سوريا واستمرار التحالف بينهما.
وعلى الرغم من الاتفاقات الكبيرة الموقّعة بين الطرفين، فإن هذه الاتفاقات من الصعب أن تنجز بشكل مباشر، رغم الاستعداد الإيراني للبدء بها، نظراً للتاريخ السابق الذي أكَّد أن الحسابات السورية للعلاقة تختلف عن الحسابات الإيرانية، فهي تسعى للإبقاء على نمط التحالف العسكري السياسي أكثر منه على الجانب الاقتصادي.
فالدور الإقليمي لسوريا الذي يحمي استمرارها يعتمد بشكل أساسي على استمرار دعم القوى المقاومة في لبنان وفلسطين، واستمرار تدفّق السلاح إلى الضفة الغربية لإنهاك “إسرائيل” داخلياً، بما يعزّز من أوراقها الضاغطة على الأميركيين ويدفع بهم لقبول الأمر الواقع باستمرار البنية السياسية الحالية.
وهي في الوقت نفسه تنظر إلى العلاقات مع السعودية والإمارات كمخرج اقتصادي وحيد للأزمة الاقتصادية، والإقرار باستمرار الواقع السياسي الحالي، وخاصةً أنها تعتبر الموقف الإيراني بمثابة صمام الأمان الوحيد لمواجهة الضغوطات الإقليمية، التي تدفع نحو تغييرات داخلية عميقة تنسجم مع مستقبل النظام الجديد الذي هو في طور التحقّق.
وهي تعوّل الآن على زيارة الرئيس بشار الأسد القريبة جداً إلى السعودية، ولقائه بالملك سلمان بن عبد العزيز، والرجل الأقوى ولي العهد محمد بن سلمان، وبدء تدفّق المساعدات، وكسر قانون العقوبات الأميركي “قيصر”، المسلّط على السوريين، وهي بهذا الأمر تستطيع العودة لتأدية دور أساسي في لبنان والعراق بالتوافق مع السعودية وإيران المتقاربتين، والدفع بتركيا لتغيير توجّهاتها السياسية والعسكرية في سوريا.
قد تنجح سوريا باستثمار مجمل التحوّلات الإقليمية لاستعادة الدور الإقليمي، وهي أمام فرص كبيرة تتيح لها النجاح بما تعمل عليه إقليمياً ودولياً. ولكن يبقى السؤال الأساسي والأهم بالنسبة للسوريين الذين ينتظرون خروجهم من الكارثة الممتدة، هل يمكن أن يتحقّق ذلك من دون تغيير جذري عميق بالبنية السياسية الداخلية التي أثبتت عجزها عن مواكبة المتغيّرات الإيجابية الكبيرة؟