الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
أثارت إشارات المسؤولين الأتراك المتتابعة عن بدء الانفتاح على سوريا لغطاً كبيراً لدى السوريين، سواء في الجانب المعارض أو المؤيد. وقد امتد الأمر إلى السوريين كافة، على الرغم من التباينات الكبيرة بينهم، لإدراك الجميع أن عودة الحياة الطبيعية إلى بلدهم المنكوب تتوقّف على نوعية العلاقة بين دمشق وأنقرة، فهل الطريق معبّدة للانتقال إلى مرحلة مختلفة بين العاصمتين؟
لا شك في أن الحرب في سوريا وعليها أحدثت ارتدادات واسعة وعميقة ومتنوعة، ليس على سوريا فحسب، إنما تجاوزتها إلى معظم الدول المنخرطة في هذه الحرب، تبعاً لرهانات كل طرف تدخل فيها، فتحولت الساحة السورية إلى اختبار جدي لكل قوة إقليمية ودولية ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها من هذه الحرب.
وعلى الرغم من ترابط الملفات مع بعضها بعضاً، بدءاً من أفغانستان، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، فإن أكثر البلدان تأثراً من الناحية السلبية هما سوريا وتركيا، اللتان تربطهما الحدود الأطول بينهما، والتي تتجاوز 900 كم.
هذا التأثير الكبير ناجم عن طبيعة الرهانات التركية التي اعتمدت متطلبات الدول الغربية حول رؤيتها المستقبلية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط بعد مؤتمري لشبونة 2009 وستراسبورغ 2010، اللذين منحا تركيا مهمة الإشراف على بلاد الشام من دون حسابات دقيقة، نظراً إلى طبيعة موقف كل من إيران وروسيا والصين، والذي أجهض الدور التركي، ومنع إسقاط سوريا وتحويلها إلى الاصطفاف الجيوسياسي، مع استمرار مشروع النظام العالمي الوحيد القطب.
وعلى الرغم من النتائج الكارثية للحرب على سوريا، سواء كان بحجم الدمار الهائل، والانزياح السكاني داخلياً وخارجياً، واضمحلال الدور الإقليمي، فإن تركيا تُعتبر الخاسر الثاني الأكبر بعدها، على الرغم من قفزاتها الكبيرة نحو الشمال السوري والعراقي، إضافة إلى ليبيا ومنطقة القوقاز، فإن ذلك لم ينعكس على الداخل التركي إيجابياً، فقد ازدادت حدة الانقسامات السياسية الداخلية، مع التراجع الاقتصادي الكبير، واستمرار الغرب في رفض انتمائها إليه، رغم كل الأدوار المهمة والخطرة الموكلة إليها.
كل ذلك ترافق مع صعود الدور الروسي والإيراني الذي وفرته لهما الحرب في سوريا، والتي انخرطت فيها الدولتان للدفاع عن أمنهما القومي، ومنعاً للولايات المتحدة من النجاح في الإمساك بأهم المناطق العالمية جغرافياً.
تدخّلت 3 عوامل أساسية في تغيير المزاج العام التركي نحو سوريا؛ أولها تحول أرباح التدخل التركي في سوريا إلى خسائر، ما دفع إلى انزياح قسم كبير من أنصار حزب العدالة والتنمية إلى الموقع المعارض لهذا التدخل، بفعل ما سببه من تراجع مكانة تركيا في محيطها الإقليمي وتدهور الاقتصاد التركي، بسبب الإنفاق الكبير على شراء جماعات النفوذ الإسلامية في معظم الدول العربية، ودعم الجماعات المسلحة في سوريا والعراق، والضغوط الاقتصادية الغربية التأديبية بعد فشل انقلاب 2016، إضافة إلى الفساد العائلي الكبير المسيطر على مفاصل الاقتصاد التركي.
العامل الثاني هو انعكاس تغيّر المزاج على نظرة الأتراك إلى المهاجرين واللاجئين السوريين داخل تركيا، واعتبارهم أحد أسباب مشاكل تركيا، فأصبحوا مادةً للصراع السياسي بين فريق الأحزاب المعارضة الستة التي ارتفعت حظوظها للفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة وبين الرئيس إردوغان، وخصوصاً أنَّ الخطاب العام لرأس هذه المعارضة، ممثلة بحزب الشعب الجمهوري، طرح التوجّه نحو المصالحة مع سوريا وإعادة السوريين إليها في حال فوزها بالانتخابات الرئاسية القادمة، ما ساهم في تقليص شعبية الرئيس إردوغان.
العامل الثالث يرتبط بالموقفين الإيراني والروسي اللذين يضغطان للتصالح بين البلدين، والذهاب نحو إعادة بناء نظام إقليمي جديد، يُحفظ فيه لتركيا دورها الإقليمي المنضبط بمعايير النظام الدولي الجديد تحت المظلة الأوراسية.
كان لمحاولات التموضع التركية شرقاً خلال العقدين الماضيين أثر كبير في المنطقة ككل، وفي سوريا على وجه خاص، فقد تميزت المرحلة الأولى بصفات القوة الناعمة التي سهلت لها دخول المجتمعات العربية، بتسويقها النموذج التركي المتسارع النمو المبني على تجربة سياسية جديدة أتاحتها اللعبة الديمقراطية في نظام برلماني، ولكنها سرعان ما انقلبت إلى قوة خشنة، بتأدية الدور الموكل إليها بعد مؤتمر ستراسبورغ 2010، لتحطم آمال شعوب منطقة الحضارات القديمة التي تفاعلت مع بعضها البعض عبر أكثر من 5 آلاف عام، وشهدت تناوب الإمبراطوريات على الإمساك بمساراتها، ما دفع إلى تبدل الانزياحات السكانية وتداخلها وعدم القدرة على رسم حدود فاصلة بين شعوبها المتداخلة فيما بينها.
وقد تكون الفضاءات السورية العراقية التركية الإيرانية الحالية هي الأكثر تعبيراً عن حجم التفاعل بينها كشعوب ودول، إن كان سلباً أم إيجاباً، وهذا ما أبرزته الحرب في سوريا التي أكدت حقيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها، بفعل التركيب المعقد والشديد التنوع لشعوبها، والتي لا يمكن عزل الارتدادات فيما بينها، مهما كانت نوعيتها.
ولا خيار لهذه الدول إلا إعادة النظر في العلاقة فيما بينها، وخصوصاً سوريا وتركيا الخاضعتين لحاكمية الجغرافيا والتاريخ المشتركين بينهما، قبل أن تظهر تركيا وسوريا كمصطلحين لدولتين حديثتين لم يتجاوز عمرهما 100 عام، فليس هناك استقرار في سوريا من دون تركيا، وليس هناك دور إقليمي لتركيا من دون سوريا، التي تُعتبر بوابتها نحو الخليج وشمال أفريقيا.
وقد يكون تعبير الأفضل عن ذلك في كلام وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، الذي اعترض بلغة دبلوماسية من طهران بتاريخ 20 تموز/يوليو على العملية العسكرية التركية لاحتلال تل رفع ومنبج وكل الشمال السوري، واعتبر أن “دخول تركيا الحدود السورية يؤثر في الشعبين الشقيقين”.
لا شك في أنَّ المصالحة بين البلدين قادمة، ولا مجال لهما إلا اللقاء من جديد وفق شروط مختلفة، وضمن بيئة إقليمية ودولية جديدة مغايرة لمرحلة هيمنة الغرب؛ المسؤول عن تحطيم المنطقة بكيانات غير قابلة للحياة كدول حقيقية، ولكنَّ هذه المسألة محكومة بمجموعة من الأسئلة التي لم تتضح إجاباتها بعد، والتي تحتاج إلى الطرح والحوار بين كل الأطراف، ويمكننا إثارتها في المقال القادم.