الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
على الرغم من وضوح التنوع الشديد في التكوينات الاجتماعية السورية، التي تتشابه مع مثيلتها في العراق ولبنان بشكل أساسي، وفي الأردن وفلسطين بشكل أقل، فإنه لا يوجد إحصاء رسمي حديث لها، ولا دراسات حول المشتركات الثقافية أو تبايناتها، وما تحمل من عصبيات فيما بينها، وأغلب الدراسات حولها غير دقيقة ولا تستند إلى دراسة إحصائية علمية حديثة معلنة، وإنما تستند إلى الدراسات الغربية التي تمت في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، في أواخر الدولة العثمانية، وأثناء الاحتلال الفرنسي حتى عام 1925 بشكل أساسي، وحتى خروجهم بفعل الضغط العسكري البريطاني، الذي أجبرهم على الخروج من سوريا، والإعلان عن استقلالها عام 1946.
كان لهذا التنوّع الكبير دور إيجابي في المراحل الأولى لبدء تشكيل الدولة السورية الحديثة، مع انعقاد المؤتمر السوري الأول في دمشق عام 1918، الذي ساهم فيه نواب من لبنان وفلسطين والأردن، في تعبير عن وحدة الإطار الجغرافي الحضاري التاريخي السوري، وأيضاً بعد عام 1920 تحت الاحتلال الفرنسي وحتى عام 1958 حيث تعاقب على حكم سوريا انطلاقاً من دمشق العاصمة، عدد كبير من الشخصيات من أصول وطنية مختلفة.
بدأت بالمملكة السورية عام 1918، تحت حكم الملك فيصل بن الشريف حسين وهو ابن الحجاز، ورئيس برلمانها مصري من أصول لبنانية، وهو الداعي الأبرز للقومية العربية والسلفية الدينية في الوقت نفسه محمد رشيد رضا، وقائد جيشها ياسين الهاشمي العراقي، ووزير خارجيتها سعيد الحسيني الفلسطيني، ووزير داخليتها رضا الصلح اللبناني.
والأكثر من ذلك أن يتعاقب عليها رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات من جذور كردية (محمد العابد)، ووزير دفاعها يوسف العظمة من جذور تركية، وجميل مردم بيك رئيس وزراء من جذور تركية، بل وترؤس محمد كرد علي الكردي لمجمع اللغة العربية، وهو صاحب الرأي الأساس، لدفع الكرد القادمين من تركيا إلى الداخل السوري، بعد ثورة الشيخ سعيد بيران، ضد إنهاء الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
اقرأ أيضاً: سوريا والمشرق.. لعنة الجغرافيا أم دُرتها؟ (1-3)
والأسماء المتعاقبة في سوريا وعليها لا تُعد ولا تحصى، في حال تمت دراسة كل الشخصيات المؤثرة بهذا المجتمع، وهي بالمحصلة تعبّر عن طبيعة النسيج الاجتماعي لسوريا، التي تُعتبر نقطة تشابك بين العرب والترك والكرد بشكل أساسي، إضافة إلى بقية التكوينات الاجتماعية، من أرمن وشركس وكلدان وأشوريين وسريان.
نتيجة للطبيعة الجغرافية الخاصة لبلاد الشام، ووقوعها بين 3 قوى إمبراطورية مركزية كبرى، في هضبة الأناضول والهضبة الإيرانية ووادي النيل، تشكّل في العقل الجمعي الباطني للسوريين الإحساس بعدم الأمن والاستقرار ببقاء سوريا بلاد الشام على بنيتها الصغيرة، التي لا تنسجم حدودها وطبيعتها مع هشاشة الجغرافيا الصغيرة، فبدأوا بالبحث عن نمط إمبراطوري أوسع ينتمون إليه بالمعنى الحديث للدولة، فانقسموا فيما بينهم، بالبحث عن هويات جامعة أكبر مما هم عليه كبديل، يؤمن لهم الاستقرار والأمن واستمرار الدورة الاقتصادية الطبيعية، فانطلقوا نحو بناء نظريات متعددة، تؤمّن لهم إزالة القلق الوجودي حول إمكانية بقائهم.
فكان السوريون أكثر شعوب المنطقة بحثاً عن هويات جامعة أكبر، والأكثر تشدداً في تبني هذه الهويات، فولدت فكرة القومية العربية بالمعنى الأيديولوجي، وليس كهوية ثقافية طبيعية، في لبنان وسوريا، وكلاهما من بلاد الشام، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فكان السوريون في سوريا ولبنان، الأكثر تشدّداً في تبني المشروع القومي العربي، وتحوّله إلى إطار أيديولوجي رومانسي، بلا ملامح فكرية واضحة، وأكثر ما تبلورت هذه المسألة في حزب البعث العربي، ومن بعده حزب البعث العربي الاشتراكي.
على عكس بقية الدول العربية، التي لم تتبلور لديها هذه الفكرة الأيديولوجية، وخاصةً في مصر حتى منتصف الخمسينيات، التي كانت القومية العربية بالنسبة لها كإطار حيوي، بلا عمق أيديولوجي. قبل أن تتطور الفكرة فيما بعد، وهي ما زالت على حالها من الناحية الفعلية، كما أن دول المغرب العربي عاشت فكرة القومية العربية من دون تمييز عن الإسلام كدين، فأصبح الإسلام هو القومية، والقومية هي الإسلام، في عملية دمج لا فكاك فيها بين العروبة والإسلام.
والهوية الأخرى التي بحث عنها السوريون، كانت بما طرحه الراحل أنطون سعادة، الذي عمل بداية على مفهوم سوريا الطبيعية، التي تضم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين والأراضي التي استولت عليها تركيا الحديثة منذ عام 1920، ثم توسع الأمر لديه بعد مراجعات سياسية وتاريخية، ومن خلفية عدم كفاية بلاد الشام لبناء دولة قابلة للحياة، بأن العراق جزء أصيل من الإطار الجغرافي السوري، وبتسمية جديدة باسم سوراقيا.
وقد أوجد حلاً لمشكلة التنوّع الإثني والديني الكبير، بالاعتماد على تصوّر يستبعد العامل العرقي والإثني في بناء الدولة القومية، والاعتماد على الإطار الجغرافي الجامع، الذي يؤمن التفاعل الحضاري التراكمي لجميع السوراقيين، بغض النظر عن انتمائهم الإثني والديني والمذهبي. وقد يكون هذا التصوّر هو الأكثر نجاعة، لمنطقة شديدة الاختلاط السكاني، بالرغم من أنها لا تحل كامل مشكلة هواجس الجغرافيا والدولة.
والهوية الثالثة الباحثة عن الإطار الأوسع، هي الهوية الدينية الإسلامية، التي يرى فيها الإسلاميون، أن إسقاط الدولة العثمانية، كان بمثابة جريمة، يجب تصحيحها بإعادة بناء الخلافة الإسلامية، التي تشكّل الفضاء الأوسع لتفاعل المسلمين، وبناء دولتهم القادرة على مواجهة الطموحات الغربية. فتلقف هذا التوجّه سريعاً السوريون الذين يشعرون بأن هذه الهوية هي التي تحل مشكلة الهواجس المزمنة، فتبنّوا الانتماء لحركة الإخوان المسلمين مبكراً، وكانوا الأكثر تشدّداً في تبنّي هذه الهوية، والأكثر ميلاً إلى استخدام العنف فيما بعد لتحقيق رؤيتهم، إن كان في سوريا، أم في أفغانستان حيث برزوا باعتبارهم المؤسسين الحقيقيين لتنظيم القاعدة.
والهوية الرابعة كحل لمسألة هشاشة الجغرافيا السورية، هي بطرح الهوية الأممية الماركسية، فولد الحزب الشيوعي السوري اللبناني، كرد فعل إيجابي على ثورة تشرين الثاني/أكتوبر الروسية 1917، فكان التأسيس المبكر للحزب الشيوعي السوري اللبناني عام 1924، وكذلك تميّز متبعو هذه الهوية، بأنهم كانوا الأكثر تشدداً في التفسير الحرفي للنظرية الماركسية اللينينية، من بقية أقرانهم في بقية الدول العربية، والأكثر التزاماً بالسياسات الروسية مهما كانت رؤيتها مخالفة للمصالح الوطنية.