كتب د . احمد الدرزي | سوريا والصين والآمال المعلقة
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ما إن تسربت أخبار الزيارة المرتقبة لوفد سوري عالي المستوى، على رأسه الرئيس السوري بشار الأسد، إلى الصين، حتى انطلقت تكهنات حول أهدافها ومدى انعكاس نتائجها على الوضع السياسي والاقتصادي للسوريين، فأي آفاق يمكن أن تحققها هذه الزيارة التي يتم التحضير لها إذا ما وصلت إلى نهايتها؟
لم يكن الاهتمام الصيني بسوريا وليد الحرب فيها عام 2011، ولم ينشأ إثر الإعلان عن “مبادرة الحزام والطريق” في كازاخستان 2013، بل يعود إلى مراحل مبكرة قبل الكشف عن المبادرة التي كانت قيد الدراسة في مراكز الأبحاث الصينية، وهذا ما لاحظته مجموعة من الباحثين العرب أثناء ملتقى في بكين عام 1999 من اهتمام الباحثين الصينيين بأهمية الموقع الجيوسياسي لسوريا في شرق المتوسط، باعتبارها عقدة جغرافية مهمة في المشروع الصيني.
وبرزت الأهمية الجيوسياسية لسوريا لدى الصين بعد زيارة الرئيس الأسد لبكين في حزيران/يونيو 2004، التي تمخَّضت عن اتفاق بين البلدين تقوم بموجبه 200 شركة صينية كبرى بإنشاء 600 مصنع في مدينة عدرا العمالية، تختزل بموجبه هذه الشركات المدة الزمنية لتوريد بضائعها إلى دول الاتحاد الأوروبي بمقدار 10 أيام بدلاً من 40 يوماً بالطرق البحرية عبر قناة السويس، وهي الاتفاقية التي لم تنفذ من دون معرفة الأسباب المانعة لها، والتي تطرح سؤالاً مهماً في حال تم تنفيذها، فهل كانت الحرب الغربية ستندلع فيها أو كانت ستعجل حدوثها؟
لم يتغيّر اهتمام الصين بسوريا بعد اندلاع الحرب فيها. وقد أصبحت أكثر أهمية، باعتبارها إحدى الدول المستهدفة بهذه الحرب، كما روسيا وإيران، بعد سوريا التي تشكل البوابة الأساس لبناء الشرق الأوسط الجديد في حال نجاح الحرب فيها وانتقال الجهاديين الإيغور إليها، وهو ما دفعها إلى إحباط المشروع الأميركي الغربي في مجلس الأمن عام 2012 بحقها.
ومع ذلك، فإن الدعم الاقتصادي الصيني المباشر لسوريا خلال الحرب الطويلة لم يرتقِ إلى مستوى الدعم السياسي في مجلس الأمن، لاعتبارات متعلقة برؤيتها لمجمل ساحة الصراع الدولي، وعدم جاهزيتها للمواجهة مع الولايات المتحدة، وعدم الإضرار بتدفق المنتجات الصينية إليها، التي وصلت عام 2022 إلى 536 مليار دولار، في مقابل واردات من الولايات المتحدة وصلت في العام نفسه إلى مقدار 153 مليار دولار رغم كل الأزمات السياسية بين البلدين.
برز إلى العلن حجم الصراع بين الصين وروسيا وإيران من جهة، وبين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، وخصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا 2022، وأخذ مستويات متعددة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وخصوصاً بعد فشل العقوبات الأميركية على روسيا، واصطفاف المزيد من الدول مع العملاقين، مع توسع منظمة بريكس، بانضمام 6 دول جديدة، أو بمؤتمر الـ “77 والصين” الأخير الذي استضافته كوبا، ما زاد حدة الاصطفافات للدول، مع ظهور دول مرتبطة بمشاريع تحاول الاستثمار بعلاقاتها الجيدة مع طرفي الاستقطاب، كحال الهند والإمارات والسعودية.
ومع ظهور مشروع إسرائيلي أميركي للربط البحري البري بين الهند والإمارات والسعودية والأردن و”إسرائيل” ودول الاتحاد الأوروبي، برزت أهمية الجغرافيا السياسية لسوريا من جديد، إن كان في شرق المتوسط باتجاه الشرق الآسيوي أم بين تركيا والخليج، من أجل إحباط مشاريع النقل البرية البحرية للمشروع الأميركي الإسرائيلي، وهذا ما يمنح سوريا فرصة جديدة للتعاطي مع الصين بكل المجالات، ولكن هل يدفع ذلك الأخيرة إلى تجاوز رؤيتها بإنعاش الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار؟
تستند الصين في رؤيتها للعالم إلى جذور تاريخية وجغرافية حضارية خاصة تختلف عن سلوك كل الإمبراطوريات في العالم، فهي بالأساس إمبراطورية ذات طابع دفاعي، وليس توسعياً، ممزوجة بالحكمة الكونفوشيوسية والديانة البوذية، ما جعلها شديدة الحذر في التعاطي مع كل التجارب المختلفة خارج حدودها الإمبراطورية، وتتغلب فيها الرؤية الواقعية على المغامرات غير المحسوبة.
كانت الصين واضحة في سياساتها مع سوريا بعد عام 2018، إثر التحولات العسكرية الميدانية وتحجيم ما تعتبره إرهاباً عالمياً، فهناك فرصة للمشاركة في إعادة الإعمار وإبراز نفسها كدولة رئيسة مسؤولة من جهة، وهناك تهديد جراء استمرار الأزمات السورية الداخلية وبقاء التنظيمات الإرهابية في وسط بيئة إقليمية ملتهبة من جهة ثانية.
المقدمة الأولى لإقدامها على المشاركة في الإعمار والاستثمار والمساعدة الاقتصادية هي تحقيق الأمن الإقليمي الذي يوفِّر البيئة الحاضنة للبيئة الداخلية الهشة من جراء الحرب، وغياب الأمن الإقليمي يساوي غياب الأمن والاستقرار الداخلي.
والأمر الداخلي منوط بتحقيق إعادة بناء الأمن الداخلي الذي يستند إلى تعزيز الحوار والمباحثات الداخلية، للوصول إلى توافق ورؤية سياسية داخلية جامعة تنبثق منها حكومة فاعلة تُناط بها عملية إعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي.
ومن خلال هذه الرؤية الخاصة للمسألة السورية، تمت بلورة السياسات الصينية تجاهها، وأن المبادرة الصينية محكومة بمجموعة من الخطوات، أولها تحقيق الأمن الداخلي الذي من الصعب أن يتحقق من دون التوافق والحل السياسي، والأمر الثاني هو تغيير بيئة العمل الاقتصادي بالانتقال إلى دورة الاقتصاد الإنتاجي الطبيعي، والأمر الثالث هو تغيير التشريعات الاقتصادية، بما يؤمن سهولة العمل وسرعته وانسيابيته.
أمام الواقع السوري الداخلي الحالي، فإن فرص الاستفادة من القدرات الصينية الهائلة تبقى محدودة جداً، فجملة التحولات الداخلية المطلوبة تحتاج إلى تفكيك وتأهيل وتركيب ضمن مدة زمنية غير محددة المعالم بغياب رؤية واضحة لعمليات التغيير المطلوبة لمصلحة السوريين قبل حلفائهم وأصدقائهم، إضافة إلى صعوبة الجمع بين مسارات اقتصادية متناقضة.
هذه الصعوبات تجعل الخيارات التي يمكن تحقيقها محدودة ضمن الإطار السياسي والأمني العسكري، باستمرار البيئة الإقليمية الملتهبة من الشمال باستمرار الاحتلال التركي وطموحاته المتصاعدة، والاحتلال الأميركي في الشرق، الحامل سيفاً مسلطاً على عنق الممر العراقي السوري، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان، والمتدخل عسكرياً وأمنياً وسياسياً في الداخل السوري، بما يؤكد أولوية إعادة بناء الداخل بالتساوق مع خيارات التموضع الجيوسياسي المشرقي الذي يمكن يقدم الكثير باطمئنانه إلى مستقبل المسار السوري.