كتب د . احمد الدرزي | دمشق تترقّب مفاوضات سليماني بالنار

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

ما إن بدأت عقارب الساعة تقترب من منتصف ليلة الجمعة للإعلان عن بداية عام جديد، حتى بدأت رسائل النار تصل إلى واشنطن، بعد انتهاء المدة التي أعلنتها فصائل المقاومة لبقاء قوات الاحتلال الأميركي في العراق. ولَم تَكن سوريا بمعزلٍ عن الرسائل، رغم عدم وجود تحذير مسبق، وكأنها تتكلَّم عن ساحة واحدة للمواجهة.

كانت الرسالة الأميركيّة البالغة القسوة منذ عامين لاغتيال كلٍّ من الشهيدين سليماني والمهندس، تعبيراً عن تجاوز الصراع والمواجهة الخطوطَ الحمر التي تُبقيهما ضمن مستوى قابل للضبط، وعدم الذهاب إلى مواجهات عسكرية وأمنية لا يسعى إليها كلّ الأطراف، والحفاظ على مستوى منضبط من العمل العسكريّ، بما يَصبّ في خدمة الأهداف السياسية ونتائجها الاقتصادية لكلِّ أطراف الصراع.

على الرّغم من استمرار الولايات المتحدة بهيمنتها على سدة القيادة العالمية، بما تمتلكه من تحكّم كبير في كلِّ الاقتصاديات الدولية، بقبضها على المنظومة المالية العالمية، إضافةً إلى القدرات التكنولوجية، فإن الواقع الاقتصادي والسياسي والعسكري العالمي يشهد انزياحاً متسارعاً نحو الشرق، وبدء استعادة القوى الآسيوية الكبرى دورها التاريخي الذي فقدته منذ أكثر من 200 عام، ما أحدث بدايات فراغ في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى شرق المتوسط، إضافةً إلى الممرات البحرية في هرمز وبحر العرب وباب المندب، ما دفع القوى الإقليمية والدولية إلى أعلى مستوى من المواجهات، لمحاولة ملء الفراغ المُحتمل تشكّله، والاستحواذ على أكبر قدر من السيطرة والنفوذ وتحديد الأدوار والأحجام.

بقدر ما كان الموقع الجيوسياسي لسوريا يمنحها دوراً مهماً كممر أساسيّ لكلِّ المشاريع المُعلنة لكل من الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، فقد كان أيضاً نقمة على السّوريين الَّذين انقسموا على أنفسهم في اصطفافاتهم مع القوى المتنوعة التي تدرك أنَّ هذا الموقع يشكّل مفتاحاً نحو عالم إقليمي ودولي جديد، أو قِفلاً في وجه كلِّ محاولات الانتقال نحو آليات جديدة لإدارة العالم، ما تسبَّب بأكبر كارثة إنسانية في تاريخ سوريا الممتدّ إلى أكثر من 5 آلاف عام.

على الرّغم من حدّة الاستقطاب الدولي والإقليمي في الحرب التي تُخاض في سوريا وعليها، فإنَّ كلّ قطب منهما ليس متجانساً في ما بين دوله حول الأهداف النهائية، سواء الَّذي تقوده الولايات المتحدة، أو الذي تشترك به كلّ من روسيا والصين وإيران وسوريا، ما ترك آثاره المدمرة في الداخل السوري، وخصوصاً ما يتعلّق بالتصورات السياسية والاقتصادية لمستقبل سوريا وبيئتها الإقليميّة، ما دفع بالمزيد من تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي، وخصوصاً بعد وضوح صورة التباين الَّذي تجلّى إثر الضربات الإسرائيلية للداخل السوري، والتي لم تتوقّف بضوء أخضر روسي، ومنع الرد الرادع الذي يساويها للإسرائيليين.

توّجت “إسرائيل” ذلك بقصفها مرفأ اللاذقية مرتين متتاليتين خلال 3 أسابيع، والذي لم يكن إلا ضمن سياق محاولات جميع القوى لتثبيت الوقائع على الأرض في غرب آسيا، ومنع إيران والصين من أن يكون لهما دور مهم على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ومحاولة حصر ذلك بمرفأي حيفا وطرطوس، كي يكونا بوابة التجارة والنقل في حوض المتوسط وكامل دول الخليج وسوريا والعراق ولبنان والأردن.

تدرك طهران المحاصَرة بأشدّ أشكال العقوبات أهميتها الجيوسياسية الكبرى، فهي بمساحتها الجغرافية الواسعة وإطلالتها على الخليج وبحر العرب ودول آسيا الوسطى، امتداداً إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر، تستطيع أن تكون الرقم الأصعب في مسار التحولات الكبرى على مستوى قارة آسيا بأكملها، فهي ضرورة لنجاح الصين في مشروعها “مبادرة الحزام والطريق”، وضرورة لنجاح روسيا في مشروعها “الأوراسي”، وضرورة للولايات المتحدة لإفشال المشروعين، وضرورة للاتحاد الأوروبي الذي يسعى لبناء كتلة اقتصادية وازنة مقابل الصين والولايات المتحدة.

على الرغم من كلِّ هذه الأهمية، فإن الأطراف الأربعة تسعى لاحتواء إيران وفقاً لشروط كلٍّ منها، مستغلةً آثار العقوبات والحصار الاقتصادي الأميركي الأوروبي.

تجري مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي في أجواء ملبَّدة بصراعات سياسية واقتصادية، تسعى كلّ القوى فيها للعمل على جعل العودة إلى الاتفاق النووي تصبّ في المصلحة الاستراتيجية العليا.

وعلى الرغم من عنوانها المحصور بالملفّ النووي، فإن الجميع يعلم تبعات العودة، سلباً أم إيجاباً، لكنَّ طهران تدرك أنها تحتاج لكسر العقدة الأميركية الإسرائيلية الأخطر، وهي إذا ما استطاعت ذلك، فإنها ستُحسن شروط الشراكة الاستراتيجية مع الصين التي لم يوقّع عليها البرلمان الإيراني بعد، وفي الوقت نفسه، تبقى ورقة ضغط كبيرة على الأميركيين والأوروبيين، إضافةً إلى الروس، الذين يسعون إلى أن يكونوا عرَّابي الاتفاق الجديد، وأن يحصلوا على مكاسب سياسيّة واقتصاديّة كبيرة، ليس في إيران فقط، بل في كلٍّ من الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن أيضاً، مع السعي لتحقيق بيئة استراتيجية آمنة لـ”إسرائيل”، للاستمرار بالحياة في منطقة لا تستطيع شعوبها تقبّلها.

دفعت تعقيدات المفاوضات الجارية وكثرة القوى المتداخلة في طهران إلى استحضار ظلِّ سليماني، لدفع الأميركيين إلى اليقين بضرورة خروجهم من غرب آسيا، كثمن واضح لعملية اغتياله والمهندس، فقامت بإجراء مناورة عسكرية بالصواريخ الباليستية لضرب مجسّم مفاعل “ديمونا” في “إسرائيل” لكبح جماح معارضتها، ووضعت 3 أقمار صناعية في مدارها على متن صاروخ يستطيع الوصول إلى أوروبا، وبدأت المقاومة العراقية مع نهاية العام الماضي بإطلاق عمليات استهداف القواعد العسكرية الأميركية بالصواريخ والطائرات المسيّرة، إضافةً إلى استهداف أرتال الجيش الأميركي بالعبوات الناسفة، وبدء إرسال الرسائل النارية مع دمشق للقوات الأميركية شرق الفرات، ومع صنعاء في إطباقِها على كلٍّ من مأرب ومنطقة الجوف الغنيتين بالنفط.

وسبق كلّ ذلك امتلاك طهران المعرفة النووية ورفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60%، ما جعلها في موقع القوة في المفاوضات، والتصلّب أكثر للمحافظة على حقوقها الوطنية، وتثبيت واقع جديد لها ولشركائها في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.

تعيش سوريا ضغوطات اقتصادية لم تشهدها في تاريخها المعاصر، بفعل العقوبات الشديدة الوطأة عليها، وعجز إيران عن المساعدة بالحدّ المطلوب، لكونها محاصرة في الأساس، وتمنُّع روسيا عن أيِّ مساعدة اقتصادية إلا بأثمان سياسية واقتصادية باهظة، إضافةً إلى عجز الإدارة السورية الداخلية التي أصابها التأكل بفعل هيمنة اقتصاد الظلِّ على الدورة الاقتصادية الطبيعية، إضافةً إلى توقف المغريات الأميركية بالعودة إلى جامعة الدول العربية، والامتناع عن البدء بعمليات الإنعاش المبكر عبر منظمات الأمم المتحدة بعد اتفاق واشنطن وموسكو على ذلك.

تدرك دمشق حجم المخاطر المحدقة بها، رغم كلِّ ما حقَّقته مع طهران وموسكو في المعادلة الداخلية، واسترداد مساحات واسعة من الأراضي السورية التي خرجت عن سيطرتها، وهي على الرغم من الاستحقاقات الداخلية، تنتظر بفارغ الصبر نتائج نهاية المفاوضات التي ستنعكس عليها إيجاباً، وتحررها من جزء من الضغوط الاقتصادية والأمنية المستمرة أو اتخاذ خيارات جديدة للانتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع قد تكون بدأتها مع خيارات الحضور الناري لسليماني في ترسيخ مشروع مختلف على مستوى غرب آسيا.

 

الميادين نت

Exit mobile version