كتب د . احمد الدرزي | حسابات اللقاء السوري التركي المؤجل
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
مذ عُقدَ اللقاء الثلاثي بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران في طهران، في 19 تموز/يوليو لهذا العام، والإشارات التركية تتوالى، حول المصالحة بين الرئيسين الأسد وإردوغان، بما أوحى بأن اللقاء المرتقب بينهما بات قاب قوسين أو أدنى مع صمت سوري مطبق، على الرغم من اللقاءات الأمنية بين البلدين على أعلى مستوى، إلى أن سربت وكالة “رويترز” الموقف السوري الرافض للقاء قبل الانتخابات الرئاسية التركية. وهذا الوضع زاد من حجم الضغوط الاقتصادية على السوريين، بعد أن تفاءلوا بقرب الخروج من المحنة التي طالت أكثر من قدرتهم على التحَمُّل. فما هي حسابات الأطراف الأربعة؟ وإلى أين يتجهون في المسارات السياسية؟
ولَّدت الحرب في أوكرانيا مستوى آخر من الاصطفافات السياسية الدولية، ودفعت إلى مزيد من حدة الاستقطابات الدولية والإقليمية، وأبرزت الأدوار الإقليمية، لإيران وتركيا بالدرجة الأولى، وللسعودية ومعها دول الخليج بالدرجة الثانية، بما أظهر قدرة الدول الثلاث على التأثير في مجمل السياسات العالمية، بما أربك الولايات المتحدة ومعها دول العالم الغربي، وفرض عليها حسابات جديدة في صراعها من أجل الإبقاء على بنية النظام الدولي الغربي المهيمن.
وقد يكون تعبير المتحدث باسم البيت الأبيض الأميركي، جون كيربي، بخصوص ارتفاع مستوى العلاقات بين روسيا وإيران أكثرها تأكيداً لحجم القلق، بعد أن وصفها “بالشراكة الدفاعية الكاملة”؛ فالبلدان يشتركان في حِدَّة العداء للغرب، وفرضت عليهما عقوبات دفعت بهما نحو المواجهة المشتركة، بعد أن أدرك البلدان أنهما يخوضان صراع الوجود والبقاء، وليس لهما خيار إلا خيار الشراكة، وأن الخروج من هذا الصراع لا يكون إلا بهزيمة المشروع الأميركي خاصةً، والغربي عامةً.
وهذا الأمر يحتاج إلى تنسيق عالي المستوى، لإخراج الولايات المتحدة من منطقة غربي آسيا، وبخاصة من العراق وسوريا ولبنان، وهو يحتاج أيضاً إلى تعاون تركيا الفاعل بعد دورها السلبي الكبير في الحرب السورية، إضافة إلى دورها الكبير في شرقي المتوسط.
ولَم يقتصر الأمر على الشراكة الروسية الإيرانية؛ فتركيا التي أُغلقت في وجهها أبواب الانتماء إلى العالم الغربي، ومنعت من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وجدت في الحرب الأوكرانية فرصة لتعزيز أوراقها كي تكون محوراً لا غنى عنه كجسر بين الشرق والغرب، ومكان للاستثمار الكبير، يساعدها في الخروج من أزمتها الاقتصادية الكبيرة.
ووجدت تركيا في إغراء روسيا إياها بالتحوّل إلى المركز الأساسي لتوزيع الطاقة الآتية من روسيا وآذربيجان وإيران وكازاخستان، وفيما بعد من شرقي المتوسط، فرصة لها كي تعاظم دورها الإقليمي والدولي، إضافة إلى تحوّلها إلى مركز استقطاب للاستثمارات الغربية الهاربة من ألمانيا وفرنسا وبقية دول الاتحاد الأوربي يكون بديلاً من الولايات المتحدة. وأظهرت نفسها الطرف الأكثر استفادة من رفع أثمان الطاقة، وهي تحتاج إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي، واستمرار الرئيس إردوغان في الحكم.
وهذا الأمر يحتاج إلى الانتهاء من الحرب السورية، التي ألقت بظلالها على الداخل التركي سياسياً واقتصادياً، وقلّلت من حظوظ إعادة انتخاب الرئيس إردوغان.
ولكن الحسابات السورية لم تكن تتماشى تماماً وحسابات الأطراف الثلاثة، على الرغم من قناعة دمشق الكاملة بأن الاستقرار في سوريا لا يمكن أن يتحقق من دون مصالحة كاملة مع تركيا. ولكن الخشية من تقلبات سياسات الرئيس التركي، كما فعل بعد منتصف آذار/مارس عام 2011، والحذر من فقدان مركزية القرار السياسي والاقتصادي والعسكري جراء المصالحة التي تتطلب إيجاد صيغة للحل السياسي تلحظ شراكة معارضين سوريين محسوبين على تركيا، ويقبلون بمصالحة دمشق، كل ذلك دفع القيادة السورية إلى رفض اللقاء في موسكو، بعد الإحجام عن عدم تلبية شروطها المتمثلة في خروج الاحتلال التركي من أراضي الشمال السوري، والتخلص من التنظيمات الإرهابية.
تبدو أطراف أستانة الثلاثة مستعجلة على المصالحة، وقبل الانتخابات الرئاسية التركية؛ فموسكو وطهران تفضلان استمرار الرئيس إردوغان في الحكم، وهو الرجل القوي الذي يستطيع أن ينفذ أي اتفاقية أو أي تفاهم معهما، على العكس من تحالف الأحزاب الستة التي اجتمعت على معارضة الرئيس التركي، وأن أي اتفاق معها يحتاج إلى التوفيق فيما بينها، وهي متباينة المصالح والرؤى حول الصراع الدولي والإقليمي، بما يدفع إلى بروز الجانب البيروقراطي، وتأثير تطاول عنصر الزمن في التنفيذ.
وهناك أمر آخر يشكل خطراً على الدولتين، هو اعتبار العاصمتين أن كل القوى السياسية في تركيا تعمل تحت المظلة الأميركية، وإن على نحو متفاوت، وهي قد تهدم كل الإنجازات التي حققتها لبناء نظام إقليمي ودولي جديد، سواء بالعنوان الأوراسي الذي يرى إيران تركيا ركيزتين أساسيتين لنجاحه، أو بعنوان محور طهران-دمشق، الذي لا يرى خلاصه إلا بزوال “إسرائيل”.
وفي المقابل فإن دمشق قد حسمت أمرها وقررت تأجيل لقاء المصالحة، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية، على الرغم من الضغوط الاقتصادية الهائلة وتعطّل ما تبقى من الحياة الطبيعية. وما بين الإسراع والتأجيل تكمن الفرص والتهديدات، خصوصاً بعد أن كان الرد التركي بثلاثة شروط، على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن: المطالبة بالتخلص من المنظمات الإرهابية، والحصول على منطقة آمنة بعمق 32 كيلومتراً، والدخول في حل سياسي. فهل نشهد تذليلاً لعقبات لقاء المصالحة بفعل حاجة الأطراف الثلاثة إلى ذلك، أم يؤجل الأمر إلى ما بعد انتخابات الرئاسية التي يُمكن أن تضمن استمرار الرئيس إردوغان، ولكن من منطلقات جديدة؟