الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
خمسون عاماً مضت على حرب تشرين/أكتوبر، وما زالت عالقة في عمق ذاكرة الذين عاشوها بوعي ابتدائي، بعد أن مرَّ عليهم طيف حرب النكسة الكبرى، كحِمل ثقيل، سيرافق ما تبقى من حياتهم كهزيمة ثقيلة، لم ينزل عن صدورهم إلا في حرب تموز عام 2006، ليعود من جديد في الحرب السورية الممتدة منذ عام 2011 حتى الآن.
جاءت حرب تشرين في ظروف دولية وإقليمية، كامتداد لما بعد الحرب العالمية الثانية، ومؤتمر يالطا، الذي تمَّ فيه تقاسم النفوذ في العالم، بين الاتحاد السوفياتي ومعه دول حلف وارسو، وغالبية دول العالم الثالث، الباحث عن مكان على هامش الحركة، وبين الولايات المتحدة، ومعها غالبية الدول الأوروبية ودول أميركا اللاتينية والدول العربية الملكية والمنتجة للنفط.
جاء القرار بالحرب إثر هزيمة ثقيلة للعرب، في حرب 5 حزيران/يونيو 1967، وبغياب الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي استطاع خلال 3 سنوات بعد الهزيمة، أن يعيد بناء الجيش المصري إلى حدٍّ كبير، والاعتماد على ثِقل الاتحاد السوفياتي بذلك، بالإضافة إلى إطلاق الصناعات العسكرية المصرية، بما في ذلك سلاح الصواريخ، الذي يعدّ أول مشروع في المنطقة العربية والإسلامية، بالاستفادة من الخبراء الألمان، الهاربين من نتائج الحرب العالمية الثانية.
ترافق غياب جمال عبد الناصر عام 1970، مع وجود قيادات جديدة لكل من سوريا ومصر، على رأسَي البلدين كلّ من الرئيسين حافظ الأسد ومحمد أنور السادات.
وكان واضحاً من البداية الاختلاف بالرؤية السياسية والإرادة والأهداف، خاصةً بعد أن أطلق الرئيس السادات على نفسه لقب “الرئيس المؤمن”، وبدأ بإطلاق سراح قيادات “الإخوان المسلمين”، لمواجهة التيار القومي الناصري، الأكثر جذرية في العداء لـ “إسرائيل”، وكان قرار طرد 20 ألف خبير سوفياتي من مصر، في شهر تموز/يوليو من عام 1972، هو المؤشر الأكبر لما سيحدث خلال الحرب، بعد 14 شهراً من القرار.
كانت بدايات الحرب ذات طابع أسطوري خيالي، بما تم إنجازه ميدانياً، بعد عبور قناة السويس في مصر، وسقوط جبل الشيخ بأيدي مقاتلي القوات الخاصة السورية، ووصول الجنود السوريين إلى بحيرة طبريا، وتناول فاكهتها من التين والعنب، وارتفعت معنويات العرب وحلفائهم إلى عنان السماء، مع توارد قصص البطولات التي خاضها جنود الجيشين، بالإضافة إلى الجنود العرب الذين قدموا من المغرب أقصى الغرب العربي، ومن العراق أقصى الشرق العربي، بالإضافة إلى بطولات السوريين من عرب وكرد وأرمن وبقية أبناء النسيج السوري، الذين مثَّلوا في هذه الحرب ذوبانهم في المسألة الوطنية السورية.
لم تمضِ بضعة أيام على بدء الحرب، حتى بدأ يتوضح اختلاف الأهداف لقيادتي البلدين، وأصبح واضحاً للرئيس السوري حافظ الأسد، بأن هناك أهدافاً غير معلنة لدى شريكه في الحرب، الرئيس المصري أنور السادات، الذي كان يؤهب لخروج مصر من ثقلها الجيوسياسي الأهم بين أفريقيا وآسيا، وكقاطرة للعرب والأفارقة، ويسلم كل ذلك لـ “إسرائيل”، ويُدخل مصر في متاهات لم تستطع الخروج منها منذ ذلك التاريخ، ولا يبدو أنها ستعود إلى دورها وثقلها الجيو-سياسي في المدى المنظور.
على الرغم مما تركته سياسات الرئيس المصري في الحرب وما بعدها، من آثار باهظة على مصر أولاً وعلى فلسطين والعرب، فإن هذه الحرب استطاعت إن تترك آثارها الإيجابية، في التاريخ الحديث.
فهي كانت بمنزلة أول خرق لأسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، بل هو “جيش” قابل للهزيمة، إذا ما تمت الاستفادة من كل الدروس السابقة، وهذا ما حصل في كل المواجهات التي حصلت بين المقاومة الإسلامية في لبنان، وبين هذا “الجيش”، ابتداءً من مواجهات 1993 ثم 1996 ثم الانسحاب الإسرائيلي بلا قيد أو شرط من جنوب لبنان، عام 2000، ثم ليكلل ذلك بحرب تموز 2006، وتتم المتابعة بمواجهات غزة والضفة الغربية.
أكدت الحرب أن فلسطين هي أهم العوامل التي تجمع العرب، فالمزاج الشعبي العام، المنفصل عن الأنظمة العربية تجاه أي تحرك نحو فلسطين، هو الناظم الأساسي لتوجهاتهم السياسية، وهو ما زال حياً حتى الآن، بما في ذلك رفع علم فلسطين، في كأس العالم لكرة القدم الأخيرة في قطر، من قبل لاعبي المغرب، بالرغم من علاقات دولتهم مع الكيان الزائل، وكأن العقل الجمعي للعرب، يدرك بأن الخروج من مآزقه، لا يمكن أن يتحقق إلا بهزيمة نظام الهيمنة العالمي في فلسطين المحتلة، التي تشكل بالنسبة لهم عنواناً للقهر، ومخرجاً نحو الحرية والنهضة، وبالتالي فإنها حرب وجودية، لا خيار فيها غير ذلك.
أكدت الحرب دور مصر الأساسي فيها، وأن نتائجها الإيجابية مرهونة باستمرار مصر فيها حتى النهاية، وغيابها يؤثر في مسار منطقة غرب آسيا بأكملها، على الرغم من تسنم إيران لتعبئة فراغ غيابها، وقيادتها للمحور المناهض لبقاء “إسرائيل”، وأن هذا الإقليم بحاجة ماسّة إلى عودة مصر إلى دورها التاريخي.
أكد نصر تشرين أن الحرب مع “إسرائيل”، هي في الحقيقة الجزء الأساسي من الصراع مع نظام الهيمنة العالمي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، الذي أمدّها بالمفاعل النووي الفرنسي عام 1955، وأقام جسراً جوياً لإمدادها بكل أنواع الأسلحة، لإنقاذها من الهزيمة، وأن النجاح في هذه الحرب، يقتضي حشد كل القوى المتضررة من بقاء هذا الكيان، كما أن الاستقرار والنهضة، لا يمكن أن يتحققا لمنطقة غرب آسيا بأكملها، إلا بإزالة هذه “الدولة” الوظيفية.
بالمحصلة، فإن حرب تشرين/أكتوبر، كانت الفرصة الأهم، التي يمكنها أن تغير مسار المنطقة، وتخلصها من عذاباتها، وعلى الرغم من ذلك، فإنها تُعدّ الخطوة الأولى في مسار التغيير الطويل للمنطقة، للخروج من آثار نتائج الحرب العالمية الأولى، وتمزيق الإقليم، والذي من المفترض أن يحقق النتائج المثلى بارتباطه بتغيير الرؤية السياسية الداخلية لكل بلدانه، والعمل على بناء نظام إقليمي جديد، بعيد ومستقل عن نظام الهيمنة، ليكون شريكاً فعالاً في النظام الدولي الجديد، قيد الولادة.
- الميادين نت