كتب د . احمد الدرزي | بين التجميد الأميركي والضغط الفلسطيني.. السوريون ينتظرون
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
يتقلّب السوريون بين الأمل والإحباط، مع كل توجه سياسي جديد، بين القوى الإقليمية والدولية تجاه بلدهم، فيرتفع مستوى التفاؤل مع كل خطوة تركية إيجابية بغطاء روسي واضح، وفعالية إيرانية من خلف الستار، وصمت سعودي إماراتي، بعلامة الرضا في ظل غياب الاعتراض، ثم يعودون إلى القلق من اشتداد أحوالهم سوءاً، مع كل سياسة أميركية تصعيدية تجاه بلدهم، والمزيد من الخطط الممتلئة بالتهديدات الوجودية لهم، فهل يمكن لفلسطين أن تؤدّي دوراً في دفع مستقبل السوريين نحو مسار مغاير؟
تتناقض استراتيجيات كل من الولايات المتحدة وروسيا بشأن أغلبية المسائل العالمية، فالصراع الصامت بينهما يمتد من قلب القارة الأفريقية إلى آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية، ثم يشتد في غربي آسيا، فيأخذ شكل تغير التحالفات المنزاحة عن الولايات المتحدة بالتدريج، ويأخذ شكل الصراع المباشر المنضبط في سوريا، ويأخذ ذروته في الساحة الأوكرانية.
وأكثر ما يظهر هذا التناقض في الساحة السورية، فالأهداف، التي رسمتها الولايات المتحدة لنفسها فيها، تميل إلى منع أي تغيير في المستوى الإقليمي المحيط بسوريا، والذي يمكنه أن يشكل بيئة آمنة لإحداث تغيير جذري في علاقات الدول الإقليمية بسوريا. وهذا ما رأيناه في التحرك السريع نحو عرقلة التلاقي السوري التركي، بالإضافة إلى التلاقي العربي السوري، ولم تكتفِ بذلك، بل قامت بإصدار وإقرار قانون “الكبتاغون”، الذي أعطت بموجبه الحق لنفسها بتشديد الحصار على سوريا، من خلال وضع ميزانية سنوية بقيمة 400 مليون دولار في الدول المحيطة بها، من أجل مراقبة الحدود، ومنع عمليات تهريب البضائع وتبادلها بين هذه الدول وسوريا.
وذهبت أكثر من ذلك، فهي بدأت العمل على قانون جديد للعقوبات غير قانون “قيصر”، وبدأت ترويجه، ابتداءً من دول الاتحاد الأوروبي، ووضعت له اسم “حفار القبور”.
وفي سباق مع الزمن، بدأت العمل على تغيير البنى العسكرية والسياسية في مناطق الشمال الشرقي من سوريا، عبر إحيائها قوات عربية عشائرية بديلة من “قوات سوريا الديمقراطية”، كي تُوضع عند الحدود السورية التركية، في محاولة لمنع تركيا من الانزياح شرقاً.
وبدأ نيكولاس غرينغل، ممثل الولايات المتحدة في الملف السوري، الاستماع إلى القوى السياسية العربية والكردية وسائر التكوينات الاجتماعية والإثنية، في خطوة واضحة لإعادة التكوين السياسي لمنطقة الشمال الشرقي، وإعطاء دور أساسي للعرب في قيادة مستقبل المنطقة، مع العمل على ربط مناطق غربي سوريا بشماليّها، بعنوان “المناطق المحررة”، باسم المعارضة السورية، واستثنائها من “قانون قيصر”، على نحو يدفع هذه المناطق نحو الخروج من الأزمة الاقتصادية السورية الداخلية، وبناء نموذج اقتصادي متفوق بما لا يُقاس بمناطق سيطرة دمشق، في مثال قريب لتجربتي كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، وعلى نحو يعزز الانفصال الفعلي بين المناطق السورية.
وهي لم تكتفِ بذلك، بل بدأت العمل على ربط مناطق الجنوب السوري، من القنيطرة إلى التنف، مروراً بمنطقتي درعا والسويداء، لتشكل منطقة جنوبية عازلة لسوريا عن محيطها العربي الخليجي، بالإضافة إلى تهديدها المستمر للممر الوحيد بين العراق، المنقسم على نفسه، وسوريا.
ولم يُستثنَ لبنان، الذي يشكل الرئة المتبقية الوحيدة لتنفس السوريين اقتصادياً، فلقد عادت إليه السياسات التفجيرية، على خلفية الصراع القضائي في ملف تفجير مرفأ بيروت، بين القاضي طارق البيطار، الممثل لسياسات التفجير الأميركية، والقاضي غسان عويدات، على نحو يشبه مرحلة ديتليف ميليس، بعد اغتيال الرئيس الحريري عام 2005.
وعلى الرغم من أن كل هذه السياسات الأميركية المتجددة تستهدف سوريا بصورة مباشرة، فإنها، في واقع الحال، تشكل ساحة من ساحات المواجهة الأميركية، للقوى الآسيوية الصاعدة، وخصوصاً التحالف الثلاثي غير المعلن بين الصين وروسيا وإيران، الأمر الذي يدفع هذه الدول إلى العمل على إفشال الخطط والسياسات الأميركية في كل الساحات، ومنها الساحة السورية، التي تشكل الساحة الأخطر بعد أوكرانيا.
من هنا، تأتي أهمية عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وخصوصاً بعد العملية الأخيرة، التي قام بها خيري علقم، والتي دفعت الأميركيين إلى الاستنفار الشديد، من أجل ضبط السياسات الإسرائيلية، بعد نجاح التيار الأشد تطرفاً في الانتخابات الإسرائيلية. وأرسلت وليم بيرنز، مدير الاستخبارات الأميركية، مع 17 جنرالاً أميركياً، للإشراف على مراكز القرار العسكري الإسرائيلي، من أجل كبحه عن الخضوع لأي قرار إسرائيلي، يطيح كل الأعمال والخطط الأميركية في المنطقة، بما في ذلك سياسات التطبيع التي أُنجزت مع دول خليجية.
والأمر الفلسطيني أصبح حاضراً في عقل القوى الآسيوية الثلاث، على الرغم من تجذره في العقل المجتمعي والدولتي في إيران، لكنه انتقل إلى مستوى أعلى، بعد اتخاذ إيران قرار التسليح والتمويل لقوى مقاومة جديدة في الضفة الغربية، الأمر الذي دفع القادة الأمنيين والسياسيين الإسرائيليين إلى توجيه الاتهام نحو طهران بشأن مسؤوليتها عن أغلبية عمليات المقاومة في الضفة الغربية. ويأتي القرار الإيراني الجديد، بخلفياته العقائدية، ومن اعتبارات سياسية داعمة لها، لاعتبار أن نقطة الضعف، أميركياً وغربياً، تكمن فيما تعده “وتر آخيل”، ومقتل المشروع الغربي، وأن خلاصها والعالم من الهيمنة الأميركية لا يمكن أن يتم إلّا بزوال هذه “الدولة”.
والأمر لا يتوقف على إيران، بل يمتد إلى روسيا، التي وقعت اتفاقاً استراتيجياً غير معلن مع إيران، لمدة 20 عاماً، تخوضان من خلاله المواجهة المشتركة مع الولايات المتحدة في أوكرانيا وسوريا والقوقاز وآسيا الوسطى. وهذا ما يدفع موسكو إلى تحريك الملف الفلسطيني سياسياً، والضغط على الولايات المتحدة من خلال العمل على إيجاد حل سياسي، وفقاً للقرارات الدولية القاضية بإنشاء دولتين. وهذه السياسة الروسية المتجددة تشكل ضغطاً على الأميركيين في سوريا، وتدفعهم إلى قبول وقائع جديدة لمنطقة مغايرة قيد التشكل، يستفيد منها السوريون بحل سياسي يتيح لهم الحياة من جديد.
ليس أمام السوريين إلّا المزيد من الانتظار، فمسارات التحول، دولياً وإقليمياً، تأخذ امتداداً زمنياً طويلاً قد لا يتحمله الأفراد، فهل بقيت لديهم القدرة على التحمل والمزيد من الصبر؟