الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
كان التركيز الإعلامي الكبير، لكلٍ من القنوات الرسمية الإيرانية والسورية، على زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق، والاستقبال الحافل الذي لقيه من قبل نظيره الرئيس السوري بشار الأسد، بعد انقطاع دام أكثر من 12 عاماً، من آخر زيارة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى دمشق. ما يحمل دلالات كبيرة على عمق التحوّلات الإقليمية المتسارعة، في منطقة غرب آسيا. فأين كانت بكين من كل ما يحصل في هذه المنطقة الحساسة من العالم؟
تميّزت الحضارة الصينية بفعلها الحضاري ببعدها عن مركز العالم القديم، الذي يتمثّل بأركانه الثلاثة، لكل من الهضبة الإيرانية الممثّلة بإيران، ووادي النيل ممثّلاً بمصر، وهضبة الأناضول الممثّلة بتركيا، وهي الحضارات والإمبراطوريات التي خاضت صراعاتها التاريخية على الساحة التي أدّت دور المرجّح للمنتصر، والممثّلة ببلاد الشام والعراق، وهي ما يطلق عليها المصطلح المستحدث “سوراقيا”.
وتميّزت هذه الحضارة بأنها ذات طابع دفاعي، فهي لم تتوسّع في هيمنتها نحو المحيط القريب والبعيد، وذهبت أبعد من ذلك دفاعياً، بأن بنت سورها العظيم، كي يمنع عنها الهجمات والاجتياحات للقبائل البدوية في وسط آسيا، إضافة إلى البعد الفلسفي لكونفوشيوس حكيم الصين، المتداخل مع تبنّي الصينيين للديانة البوذية، مما عزّز البعد الدفاعي لهذه الإمبراطورية، بالتركيز على فنون القتال بعنوان الدفاع عن النفس.
وعلى الرغم من هذه النزعة الدفاعية للصينيين، فإن ذلك لم يحمِها من التعرّض للاجتياح الغربي، والخضوع لقرن من الإذلال الذي امتد من منتصف القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، على يد البريطانيين والأميركيين بشكل أساسي، وجعلها مركزاً لتوزيع وتسويق المخدرات فيها.
أدركت بكين بعد اندلاع حركات “الربيع العربي”، بأن ما يحصل في المنطقة ليس سوى فعل غربي، كجزء من الثورات الملوّنة، وأنّ هيمنة التيار الإسلامي على هذا الحراك يستهدف أمنها القومي بزعزعة الاستقرار الصيني عبر بوابة إقليم شينغيانغ، من خلال الإيغور المسلمين، مما دفع بها لاتخاذ القرار للانتقال إلى خارج حدود الصين.
فكانت الرسالة الأولى، ولأول مرة في تاريخها، بعبور مدمّرتين حربيتين صينيتين Quing b وNoauio والفرقاطة Waishanhu لقناة السويس، والتوجّه إلى قبالة الساحل السوري في شهر تموز/يوليو عام 2012 للتعبير عن استعدادها للدفاع عن أمنها القومي من البوابة السورية.
وعلى الرغم من غموض السياسة الصينية واعتمادها على القوة الناعمة في تعزيز وجودها في كل أرجاء العالم، فقد كان واضحاً أن بكين في عهد شي جين بينغ قد اختطت لنفسها سياسة مختلفة، فقد أدخلت إلى سياساتها الاقتصادية البحتة قدراتها السياسية المطمئنة للدول والشعوب التي وصلت إليها، بتعزيز المصالح المشتركة معها، وعدم لجوئها إلى الهيمنة والابتزاز، مما أهَّبَ الأجواء المناسبة لإعادة توجّهات السياسات الإقليمية والدولية للتعاطي بإيجابية مع هذه السياسات على أرضية الثقة الكبيرة.
تشكّل منطقة غرب آسيا حالة مفصلية لبناء نظام دولي جديد، إن كان بقيمتها الجيوسياسية العالية لمن يستطيع جذبها، أم بما تمتلكه من قدرات طاقوية تشكّل 40% من مجمل الاحتياطيات النفطية والغازية العالمية، وهذا ما دفع بكل من الصين وروسيا للإعلان عن تحالفهما غير المعلن في الرابع من شباط/فبراير من عام 2022، وقبل ذهاب روسيا لمواجهة الناتو في أوكرانيا بثلاثة أسابيع.
أظهرت الحرب في أوكرانيا أن هناك سياسات جديدة لدول في غرب آسيا، فلم يكن هناك من يستطيع أن يتخيّل بانزياح واضح لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، للتنسيق مع كل من الصين وروسيا، وخاصةً الرياض، التي ذهبت بعيداً بإفشال العقوبات الأميركية على روسيا، بل الذهاب نحو دعم موسكو، إن كان برفض رفع مستوى الإنتاج النفطي لمنع حصولها على عوائد مرتفعة من بيع النفط الروسي، أم باستهلاك المشتقات النفطية الروسية بأسعار رخيصة، وبيع نفطها بالأسعار المرتفعة.
مع الإعلان المفاجئ للاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، الذي وقَّع عليه رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، وعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني رئيس مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية وانغ يي، والذي لم تعلم به واشنطن، إلا قبل بضع ساعات، كما ذكرت مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف، أننا أمام الخطوات الأولى لنظام إقليمي جديد.
تقف الكارثة السورية حجر عثرة كبير أمام تشكّل النظام الإقليمي الجديد، فهي بعد حرب استمرت لأكثر من 12 عاماً، والتي تحوّلت فيها إلى ساحة صراع إقليمي بين دول إقليمية كبرى، لها امتداداتها الدولية بين الغرب والشرق، تولَّدت عنها نتائج كارثية على الدول المحيطة القريبة والبعيدة، إن كان بسبب العدد الكبير للاجئين السوريين، الذين تحوّلوا إلى عنصر ضاغط اقتصادياً على البلدان المضيفة، أم بسبب تهديدات المجموعات المسلحة الخاضعة لسياسة المصالح الأميركية، أم بفعل تهديدات استمرار تدفقات اللاجئين السوريين إلى دول العالم بفعل الإفقار الشديد المستمر.
استطاعت بكين بشكل أساسي تسويق معادلة جديدة في غرب آسيا، اعتماداً على وصول جميع الدول إلى مأزق استمرار الصراع، بأنها تستطيع أن تكون الضامن الأساس والمظلة الدولية لتوافق الفرقاء المتصارعين، والاعتماد على معادلة رابح-رابح، بديلاً عن بقية المعادلات التي ستكون نتائجها النهائية خاسر-خاسر. فكان أن سبق مجيء الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي حضور المبعوث الصيني الخاص لشؤون الشرق الأوسط، تشاي جون، بتاريخ 29 نيسان/أبريل، ولقائه بالرئيس الأسد.
لقد أصبح واضحاً للجميع بأن الدور الصيني المتصاعد هو الدور الرئيسي في ترتيب البيئة الإقليمية الجديدة، وأن سوريا بإطلالتها على شرق المتوسط ذات أهمية جيوسياسية كبرى. وما “توقيع مذكّرة تفاهم لخطة شاملة طويلة الأمد”، بين إيران وسوريا، التي تركّز في أحد بنودها على ربط سكك الحديد بين سوريا وإيران، عبر العراق، سوى دلالة قوية على إنجاز “مبادرة الحزام والطريق”، التي ستصل من خلالها سكك الحديد المذكورة إلى بكين، تمثّل فيها إيران العنصر الفاعل الأساس بنجاحها.
تدرك كل القوى الإقليمية في نظامها الجديد بأن النجاح مرتبط بخروج سوريا من كارثتها المستمرة، وأن تحقيق الاستقرار فيها لا يمكن أن يتمّ إلا بإحداث تغييرات جوهرية في بنيتها السياسية الداخلية، والتي لا يمكن أن تتحقّق إلا بشراكة السوريين كافة في إدارة بلدهم، وهذا ما يحقّق الاطمئنان لعودة السوريين من مناطق النزوح الداخلي واللجوء الخارجي، وتحقيق التنمية، وفقاً للرؤية الصينية لإنهاء الكارثة السورية.
ويمكن لإيران أن تؤدي دوراً مهماً في حدوث ذلك بحكم علاقتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا، وبحكم علاقتها المتجذرة مع سوريا، والجيدة مع تركيا ودول الخليج، وهذا ما يمكن أن تساهم به زيارة الرئيس الإيراني إليها، وقرب استئناف العلاقات السورية السعودية على أعلى مستوى، فهل سينتظر السوريون حصول ذلك قريباً وخلال أشهر؟