الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
لم تكن تلبية النخب الكردية وغير الكردية، للمؤتمر الكردي الحادي والعشرين في هولندا، بعنوان “المؤتمر الوطني الكردستاني”، إلّا تعبيراً عن حجم التهديدات القادمة، من باب التحولات الدولية، وصعود كل من إيران وروسيا إلى مستوىً جديد من التحدي للولايات المتحدة، مع ما يمكن أن يترك من آثار سلبية في القضية الكردية، فكان السؤال الأساس للمؤتمر هو: “ما العمل؟”.
هذا الأمر ينطبق على كرد سوريا، الذين استطاعوا استثمار فرصة الحرب، منذ منتصف آذار/مارس 2011، ليقيموا تجربة سياسية خاصة، تنسجم مع أحلامهم وطموحاتهم في إنشاء كيانية سياسية، بالارتكاز على مفهوم الأمة الديمقراطية، وبالاعتماد على قراءتهم للواقع الدولي، من زاوية تعتقد أن ضعف الدولة السورية الشديد، وانتشار الحرب المركبة، في معظم الأراضي السورية، وتدخّل الدول الكبرى والإقليمية الواسع في هذه الحرب، أمورٌ تتيح لهذه التجربة أن تنجح وتمتدّ إلى كل الأراضي السورية، وربما تستطيع أن تنتقل إلى دول الجوار، وخصوصاً في تركيا، حيث ينشط الوجه الآخر لمحاولة النجاح، متمثلةً بحزب الشعوب الديمقراطي.
تأسّست خيارات قادة التجربة في سوريا، على تصور حاجة كل أطراف الصراع، دولياً وإقليمياً، للتحالف مع الكرد، وخصوصاً الولايات المتحدة، بعد تدخل الطيران الأميركي لإنقاذ مدينة عين العرب/كوباني من السقوط في أيدي تنظيم “داعش”، مع البناء على استمرار الولايات المتحدة قطباً مهيمناً وحيداً على العالم، واستبعاد حدوث متغيرات دولية قريبة تثبت عكس ذلك.
لكنّ هذا الأمر لم يَحمِ الكرد السوريين في عفرين، من احتلالها وتهجير أهلها عام 2018، وبدء عملية تتريكها، كواقع لا رجوع عنه، ومن دون أيّ تدخل أميركي للضغط على الأتراك من أجل منعهم من اجتياح هذه المنطقة. وتكرَّر هذا الأمر مع اجتياح المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين، بطول 110 كم وعمق يتراوح بين 10 و30 كم، ليتهدد الوجود الكردي في كل الشمال السوري، لولا تدخّل البنتاغون من أجل الإبقاء على القوات الأميركية في مجموعة من النقاط والقواعد العسكرية.
لم يدرك القادة الكرد أهمية الموقع الجيوسياسي الفريد لتركيا، وثِقلها، عسكرياً واقتصادياً وديمغرافياً، لدى كل أطراف الصراع الدولي، وانعكاس ذلك على قدرتها على فرض وقائع على الأرض السورية، بفعل حاجة كل القوى الكبرى إليها، الأمر الذي أتاح لها هامشاً واسعاً للمناورة، وتحصيل مزيد من المكاسب على حساب سوريا والسوريين.
الأمر الآخر الذي يتم إدراكه، مفاده أن هناك تحولاً متسارعاً في بنية النظام الدولي، وخصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا، والتي كشفت حقيقة الصراع الكبير بين الغرب، في وجهيه الأوروبي والأميركي، وبين الشرق، عبر قواه الآسيوية الصاعدة، والتي ذهبت بعيداً في تحدي النظام الدولي القائم، والوصول إلى اللحظة الحرجة، بالعنوان الأوكراني، الذي يشكل رأس جبل الجليد، على نحو يدفع المستشار الألماني شولتس إلى الاعتراف بأن الأزمة ليست في الحرب في أوكرانيا، بل هي تهديدات النمو الاقتصادي للقوى الآسيوية، والتقدم التكنولوجي فيها.
أفرزت الحرب الأوكرانية اصطفافاً آسيوياً ثلاثياً ذا بعد عالمي، يضم كلاً من روسيا والصين وإيران، الأمر الذي دفع ميخائيل أوليانوف، مندوب روسيا في الأمم المتحدة، إلى التأكيد أن “الصين وإيران وروسيا باتت تشكّل مثلثاً جديداً في الدبلوماسية الدولية”. وهذه الدول الثلاث لها أدوار متباينة، لكنها أساسية ومباشرة، في الحرب السورية، بالإضافة إلى الاصطفاف الثلاثي السابق بين إيران وروسيا وتركيا، والذي دفعت إلى تشكيله الحرب السورية، والتنسيق فيما بينها في إطار ملتقيات أستانة التسعة عشر. وهي اتفقت، في 19 تموز/يوليو، في مؤتمر طهران الثلاثي بين الرؤساء الثلاثة، على إخراج الولايات المتحدة من سوريا، والذي يعني خروجها من كل غربي آسيا.
وبين الاصطفافين السابقين هناك تركيا وإيران، ولديهما هواجس مشتركة، من العبث الأميركي في الأمن القومي لكل منهما، عبر استغلال التنوع لديهما، قومياً ومذهبياً. والأكثر خطورة على وحدة أراضيهما، هو التحركات الكردية في البلدين، الأمر الذي يدفع إلى الانفصال وتمزيق الدولتين، في حال نجاح التجربتين الكرديتين في سوريا والعراق في تحقيق كيانية سياسية مستقلة.
أصبح من الواضح أن هناك تحولات إقليمية ودولية، ليست في مصلحة الكرد، في الدول الأربع التي يوجدون فيها بصورة أساسية. فالدور التركي المتصاعد، انعكس سلباً على تجربة الكرد في سوريا، وخصوصاً بعد أن احتلّ الجيش التركي بصورة مباشرة، أو عبر المجموعات المسلحة، 10% من الأراضي السورية، وهو يتأهب فعلياً لتنفيذ تهديداته، عبر هجوم بري جديد، أو الخضوع للشروط التركية، عبر انسحاب الكرد 30 كم عن الحدود المشتركة، وتسليم المنطقة إلى الجيش والحكومة السوريَّين، الأمر الذي يعني إنهاء تجربتهم، أو تحمُّل هجوم بري جديد، وتهجير الكرد من الشمال السوري، وسيطرة مباشرة على المنطقة، على نحو يحقق المطامح التركية، بعنوان الأمن القومي التركي ومحاربة الإرهاب.
ولا يخلو إقليم كردستان العراق من تهديدات مماثلة، من جانب إيران، بعد تورطه في الداخل الإيراني، عبر توفير قواعد محمية لحزب “الكوملة”، وتحوّله إلى مراكز للموساد الإسرائيلي، والاستخبارات الأميركية.
تحوّل عامل الزمن إلى عنصر ضاغط على القيادات الكردية السورية، فالولايات المتحدة أبدت انكفاءً واضحاً عن منع الرئيس التركي من القيام بعملية برية، بل سحبت قواتها من موقع الشركة الفرنسية، “لاڤارج”، بالإضافة إلى الموظفين الذين نقلتهم إلى إربيل، الأمر الذي يؤكد عدم معارضتها الفعلية للهجوم البري التركي.
وفي الوقت نفسه، فإن موسكو ودمشق تنتظران موافقة القادة الكرد على إعادة المنطقتين الشمالية والشرقية إلى سيطرة دمشق، في مقابل امتناع تركيا عن اجتياح جديد للشمال السوري، وأن إمكان الحوار بين دمشق وكردها تقلّص كثيراً، والخيارات المتاحة بين أيديهم: إمّا مواجهة هجوم بري تركي جديد، من دون حماية للظهر، وإمّا الذهاب نحو دمشق بغطاء روسي، وتسليمها المنطقة بأكملها، والتحول إلى معارضة في كامل الأراضي السورية، من أجل الدفع نحو التغيير الجذري العميق والهادئ للبنية السورية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والعمل على إعادة المنطقة إلى سياقها التاريخي الطبيعي، من خلال نظام إقليمي جديد، يتيح لشعوبها الحياة، من دون فواصل حقيقية فيما بينها.