الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ما زالت تداعيات توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وسوريا تلقي بظلالها على العقل السياسي الغربي بشكل عام، الذي يضع كل نتائج احتمالات هذه الخطوة، على عكس الحذر الداخلي السوري الشديد تجاه نتائج التوقيع، بفعل تحطم آمال السوريين ورهاناتهم في كل مراحل الحرب على بلادهم.
يرتبط هذا التفكير السياسي الغربي بطبيعة الصراع الذي يخوضه للدفاع عن مكاسب الهيمنة الغربية المستمرة على العالم منذ أكثر من 200 عام في وجه القوى الآسيوية الناهضة التي تشكل تهديداً حقيقياً للنظام الغربي عموماً، وانتقال مركز القرار العالمي من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وما تعنيه منطقة غرب آسيا من قوة مُرَجِّحة لأي النظامين.
من هنا، يأتي الاهتمام الغربي باتفاق الشراكة الصينية السورية، الذي اعتبره بمنزلة الرد على المشروع “الهندي-الإماراتي-السعودي-الأردني-الإسرائيلي-الأوروبي”، الذي ينشئ بديلاً آمناً من “مبادرة الحزام والطريق”، بعد العجز عن تحقيق خطوات ملموسة بهذه المبادرة لوقوعها في مناطق متفجرة ومليئة بالصراعات الإقليمية والصراعات الداخلية ذات الطبع الإثني والديني والمذهبي والعشائري، وبتداخل غريب بين كل مستويات هذه الصراعات الداخلية العابرة لحدود الدول.
تأتي خطوة الصين في ظل تخليها عن سياسة الدفاع الحذر والتركيز على الاقتصاد، بالانتقال إلى مستوى أعلى قائم على استثمار القوة الاقتصادية الصينية بتحويلها إلى فعل سياسي متقدم يتيح للسياسة الخارجية حضوراً أكبر لدى الدول التي تعاني بفعل سياسات الهيمنة الغربية وتريد الخروج من عباءتها.
وبهذه الخطوة الأقل حذراً من الماضي، تسعى لوصول المبادرة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، كنهاية لخط البرّ الآسيوي وبدء الخط البحري نحو شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، وخصوصاً في ظل تهديدات حرمانها من مرفأ حيفا الذي كان الفرصة الوحيدة المؤمنة للصينيين، بفعل الضغوط الأميركية والأوروبية، وكنتيجة لاستمرار أعمال المقاومة لـ”إسرائيل” والاحتمال الكبير لتوسعها في الضفة الغربية وأراضي فلسطين 1948 المحتلة.
تساهم هذه الخطوة المتقدمة في جمع القوى المُعرقلة للمبادرة حتى الآن، وهي في الوقت نفسه الدول المتضررة من مشروع النقل الأميركي الجديد، فالعراق المنقسم على نفسه جمَّد التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الصين لمدة 10 سنوات، بعدما أطاحت الولايات المتحدة رئيس وزرائه عادل عبد المهدي إثر ذهابه نحو التوقيع بثورة ملونة عام 2019، وذهابه نحو مشروع بناء القناة الجافة للنقل البحري البري من ميناء البصرة على الخليج إلى أوروبا عبر تركيا، وهي لم تعد ذات جدوى كبيرة، بوجود ممر أقصر وآمن ومستقر نسبياً، إضافة إلى استبعاد كل من سوريا وتركيا ومصر من المشروع، وما يمكن أن يحمل ذلك من تهديدات لأدوار الدول الثلاث الإقليمية.
أهم تهديد في هذا المشروع موجه إلى إيران، فهو بمنزلة محاولة لمحاصرة دورها الجيوسياسي الأهم في المبادرة، ففيها تمر أهم الممرات البرية للمبادرة نحو أوروبا عبر تركيا، وإلى شمال أفريقيا عبر العراق، وإلى شرق البحر المتوسط عبر سوريا، وهي الأقرب إلى الصين وروسيا في مواجهة تهديدات النظام الغربي، عدا عن عرقلة الهند ممر الشمال باتجاه روسيا وشمال أوروبا عبر ميناء تشابهار.
تحتاج الصين بشدة إلى تحقيق الاستقرار في منطقة غرب آسيا، المبني على انتقال دوله من مرحلة الصراع المباشر واللامباشر إلى مرحلة التعاون الإقليمي المبني على تكامل المصالح الاقتصادية فيما بينها، بما يحقق للجميع مكاسب أكبر بكثير من خسائر الصراع الذي لن ينجو منها أحد.
وقد استطاعت إلى حد ما العمل على تجميد الصراع الإيراني السعودي، والانتقال به إلى مرحلة الحد الأدنى من التعاون، بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين وما يمكن أن تشهد المنطقة من انعكاسات إيجابية لعودة العلاقة.
تتابع الصين ما يجري في ملتقيات منصة أستانة الثلاثية التي تحولت إلى منصة رباعية، بعد انضمام سوريا إليها، والتي وصلت إلى طريق مسدود، بفشل اللقاء الأخير في نيويورك في إطار مؤتمر الأمم المتحدة السنوي، فكان بيانها تبريرياً بعنوان السعي لاستمرار جهود دول هذه المنصة. وقد سبق ذلك الاجتماع تصريحات وزير الدفاع التركي يشار غولر، التي ربط فيها وجود قوات بلاده في الشمال السوري بالتطورات السياسية في سوريا، بما فيها “إنشاء دستور جديد وإجراء انتخابات ديمقراطية، إضافةً إلى تشكيل حكومة تمثّل جميع الأطياف السورية”.
هذه التصريحات تعبر بشكل واضح عما تريده تركيا في سوريا، فعلى الرغم من حاجة السوريين إلى التغيير السياسي العميق وفقاً لرؤيتهم ومصالحهم، بما يحقق استعادة وحدة أراضيهم، ويعيد إليهم استقلال بلادهم، بعيداً من القوى الدولية والإقليمية التي تعمل على تحطيمها، فإن تركيا تسعى لتثبيت وجودها في سوريا، من خلال حل سياسي يتيح لها النفوذ الأكبر فيها، بإدخال المعارضة السورية التي تتبناها وتدعمها بعنوان تقاسم السلطة.
تستطيع الصين أن تتدخل بثقلها الاقتصادي والسياسي، وأن تساهم مع روسيا وإيران بالضغط على تركيا ودفعها نحو تفكير مختلف لتناول المسألة السورية، بما يدفعها إلى تجاوز المخاطر المتعددة التي تعيشها إثر تهاوي سعر الليرة التركية أمام العملات الصعبة، عدا عن عدم تقبل الغرب عودة تركيا إلى مستوى العلاقات نفسه بينهما قبل عام 2013، ورفضه الأخير دخولها نادي الاتحاد الأوروبي، بالرغم من كل المبادرات السياسية للرئيس التركي إردوغان تجاه الدول الأوروبية و”إسرائيل”.
وتستطيع الصين أيضاً أن تساهم بحكم رفع مستوى علاقتها من جديد مع سوريا في توفير الحماية السياسية والاقتصادية بالتعاون مع روسيا وإيران، ونزع ذرائع التغيير السياسي والديموغرافي التركي في سوريا، بتوفير البيئة المناسبة للتغيير السياسي الداخلي في سوريا، بناءً على مصالح السوريين، لا بما يدفع القوى الدولية والإقليمية إلى إحداث تغيير سياسي مبني على المحاصصة الداخلية والخارجية.
قد يكون هناك الكثير من العقبات المعرقلة للسياسات الصينية الجديدة، فحجم مشكلات المنطقة بالعموم، منذ أن حطمتها القوى الغربية بعد الحرب العالمية الأولى، كبيرة. وقد تكون القضية الكردية هي الأهم فيها، وخصوصاً بين سوريا وتركيا والعراق، وهم بتموضعهم الجغرافي على ممر المبادرة من شمال غربي إيران وجنوب شرقي تركيا ووجودهم في شمال شرقي سوريا، يشكلون عنصراً مهماً لتأمين الاستقرار، وهي تحتاج إلى تعاطٍ مختلف بين الدول، بما يؤدي إلى إيجاد حل لقضيتهم ضمن كل دولة ضمن الإطار الوطني، بما يحفظ حقوقهم السياسية والثقافية.
الخطوة الصينية المقبلة بالعمل على تحقيق الاستقرار في منطقة غرب آسيا آتية، فطبيعة مواجهة التهديدات الأميركية المتصاعد تقتضي منها التخلي عن المزيد من الحذر السياسي والاقتصادي والإلقاء بثقلها العالمي لدفع كل دول الإقليم إلى إيجاد شراكة حقيقية مبنية على التعاون والشراكة بالمصالح الاقتصادية.