الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
على الرغم من بيان مجلس الأمن القومي التركي، الصادر يوم الخميس 26 أيار/ مايو الماضي، والذي أوحى بتأجيل عملية غزو الشمال السوري، فإن هذا البيان لا يعكس وقائع الأمور على الأرض، ولم يلغِ عملية الغزو التركي لما تبقى من أراضي الشمال السوري.
تتداخل ساحات الصراع الدولي والإقليمي، من أوكرانيا إلى بحر الصين مقابل تايوان، ولا تنتهي في سوريا والعراق وفلسطين واليمن، وميزة هذا التداخل هي عدم الاستقرار، وتغير الرهانات بين كل الأطراف. رغم الوضوح الشديد في مواقف الدول الكبرى، يبقى هناك هامش للتقاطعات فيما بينها، حول الملفات الإقليمية، بين التصعيد من جهة وبين محاولات رسم خطوط تقاطع المصالح فيما بينها.
وهذا حكماً يدفع بكل الأطراف الإقليمية والمحلية إلى رسم رهانات جديدة، قد لا تنسجم مع المسارات السابقة، ويسيطر عليها التردد والانتظار لجلاء التحركات الميدانية، في كل من أوكرانيا والشمال السوري واليمن وفلسطين، بالإضافة إلى العراق ولبنان اللذين وضعا قيد الانتظار، ومنع الانفجار.
وقد يكون العامل الذي ساهم بنجاح الضغوط الإسرائيلية، حتى الآن، داخل أروقة صناعة القرار الأميركي لإفشال العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، هو الفشل الأميركي في جذب إيران بعيداً عن روسيا والصين. يترافق ذلك مع نجاح العلاقة السعودية الروسية، التي عبرت عن نفسها، بموقف وزير الخارجية الروسي سيرغي لاڤروڤ، الذي اعترف بموجبه بتمثيل المجلس الرئاسي اليمني، المُشكل من قبل السعودية، التي تراهن على نجاح ضغوطها على الإدارة الأميركية لقبول توجهات محمد بن سلمان ملك العربية السعودية القادم.
ولَم يمضِ أكثر من أسبوع، حتى بدأت الرسائل العسكرية التركية، باتجاه كل من تل رفعت ومنبج، للضغط على روسيا لقبول ذرائع الرئيس التركي إردوغان، المتعلقة بالأمن القومي التركي، بحسب ادعائه، بضرورة قطع التواصل الكردي بين شرق الفرات وغربه، لتقضي على كل الآمال باستعادة منطقة عفرين وعودة أهلها إليها. وتبدو الاندفاعة التركية الجديدة نحو الأمام، واضحة ببعدها الداخلي، خاصةً بعد اجتماع قادة أحزاب المعارضة الستة، وطلبهم من الرئيس إردوغان، تبيان مبررات العملية العسكرية الجديدة التي لا تخدم تركيا. في إشارة إلى البعد الداخلي، استمرار تدهور سعر الصرف لليرة التركية، وفشل السياسات المالية، واستمرار انحسار القوى المؤيدة له، على مستوى الأتراك، بعد أن وصلت إلى أدنى حدودها قرابة 30 %، وهو بهذه الاندفاعة أقرب ما يكون إلى حافة الهاوية.
ليس إردوغان وحده، فالقادة الكرد أيضاً يعيشون حالة اللا يقين، وعلى الرغم من التطمينات الأميركية، التي تصدر بشكل متموج صعوداً وهبوطاً، فإنهم يدركون بأن الرهان على القرار الأميركي مليء بالمخاطر، خاصةً بعد تجربة عملية درع الفرات عام 2016، والتي دخلها إردوغان بكل يُسر، ومن دون مقاومة من تنظيم “داعش”، ولا ممانعة من واشنطن وموسكو، ليحتل مدينة جرابلس، وبعدها عملية غصن الزيتون 2018، واحتل فيها منطقة عفرين وهجَّر أغلب أهلها، برضى أميركي- روسي، أعقبها بعملية نبع السلام عام 2019 باحتلال المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين.
وبالرغم من استمرار مخاطر الرهان على الأميركيين، فإن الكرد مستمرون، وليس أمامهم -كما يعتقدون- إلا انتظار الوقت واستمرار اللعب على حافة الهاوية، رغم أنهم الطرف الأضعف في المعادلة الإقليمية والدولية. وفي الوقت نفسه، تدرك الإدارة الأميركية أن خيارات الكرد ستبقى معهم، حتى لو أعطوا تركيا الضوء الأخضر لاجتياح ما تبقى من الشمال السوري على ثلاث مراحل، ما يجعل من الكرد ضحية جديدة لرهانات غير واقعية وغير منطقية، وانزياحهم نحو مناطق على عمق أكثر من 30 كم، واستمرار قادتهم بالرهان على الغطاء الأميركي، انتظاراً لمتغيرات دولية وإقليمية لن تأتِي.
بينما تنتقل دمشق إلى مرحلة جديدة من التعاطي مع ملف الشمال السوري، وهي تلتقط بعض ارتدادات الحرب في أوكرانيا بشكل إيجابي، خاصةً بعد أن أخذت موسكو موقفاً عملياً، بتحركات طيرانها العسكري فوق المناطق المحتمل دخول الجيش التركي إليها، وتوارد الأنباء عن بدء نشرها لمنظومات الدفاع الجوي في القامشلي، وتحرك رتل عسكري سوري نحو تل رفعت ومنبج، ولكنها بالمحصلة رهانات خطرة أيضاً ترتبط بأي متغير إقليمي كارتداد للصراع الدولي.
بالمحصلة، واختصاراً للمشهد، فإن كل القوى السياسية التركية ضمن الخط الأميركي، والصراع فيما بينها هو تحت المظلة الأميركية، وكذلك الأمر فإن معظم القوى الكردية لا تنزاح خارج هذه المظلة، رغم التناقض الأيديولوجي والتاريخي.
وما زالت أميركا والغرب عموماً يمسك بتلابيب تركيا لجملةٍ من الأسباب الاقتصادية والعسكرية، وقلق إردوغان من انتصار روسيا وهزيمة الولايات المتحدة في أوكرانيا سيضعه في موقف حرج مع بوتين، وهو له مصلحة بانتصار أميركا شرط القبول به شخصياً، وهنا المشكلة.
بينما هزيمة روسيا تعني ملء كل الفراغ الإقليمي بالقوة التركية، وهنا تأتي مصلحة تركيا ككل وإردوغان شخصياً.
الرئيس إردوغان قلق ولكنه ما زال الطرف الإقليمي الأقوى بين القوى الدولية، بفعل هامش الحركة الكبير لديه، والخاسر الأكبر في حال غزوه لبقية الشمال السوري، بكل الأحوال سوريا ككل والكرد خصوصاً، إذا لم يتم تغيير الرهانات.