كتب د . احمد الدرزي | الشمال السوري المحتل أي حياة؟ دراسة حول الجماعات الإرهابية

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

دفعت سوريا على مدى أكثر من عقد من الزمان، بعد انطلاق الثورات الملونة في المنطقة العربية، ثمناً باهظاً هو الأكثر كارثية في تاريخها الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام، وقد استطاعت القوى العميقة في الولايات المتحدة من إحداث إنقسام عميق داخل المجتمع السوري عمودياً وأفقياً، باستخدامها الجيل الرابع من الحروب، في مجتمع لم يكن محصناً بما فيه الكفاية لرد مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي وُضعت أسسه في مؤتمر سي آيلاند في الولايات المتحدة عام 2004، الذي اعتمد على قوى الإسلام السياسي الإخواني، لتشكيل إطار جيوسياسي واسع، لحصار التهديدين الأساسيين لاستمرار الهيمنة الأمريكية على مقدرات الاقتصار العالمي، والمتمثلين بالصين وروسيا، ولَم يكن هناك أفضل من النظام السياسي التركي كنموذج لتسويقه، بدغدغة مشاعر المسلمين واستقطابهم، وتكليفه بإدارة القوى المتطرفة من الجماعات الإسلامية.
نجحت الولايات المتحدة في إطلاق مشروعها إبتداءً من تونس ومصر وليبيا، بإعادة تطبيق الثورات الملونة، واستطاعت الوصول إلى سوريا، التي تحولت إلى البوابة الأخيرة لانتقال الفوضى نحو الفضاء الروسي والصيني، وحصار إيران بصيغة مذهبية مغايرة، لتقطيع أوصال القارة الآسيوية، التي تشهد نهضة كبيرة.
كان للموقفين الروسي والصيني دوراً أساسياً في إسقاط مشروع شرعنة التدخل الغربي في سوريا كما حصل في ليبيا، باستخدام الفيتو لثمانية عشر مرة خلال سنوات الحرب.
كان للتدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب، وبالتعاون مع إيران وسوريا دوراً أساسياً في تحجيم المشروع الأمريكي، وتقليص طموحات تركيا التي كانت تسعى للتمدد إلى شمال إفريقيا عبر البوابة السورية، ما دفع بكل من الولايات المتحدة وتركيا للتعاطي مع المستجدات الميدانية من منطلقات مختلفة، فكان الضوء الأخضر الأمريكي لتركيا باحتلال جرابلس إدلب وعفرين ومناطق واسعة من الشمال السوري.
استطاعت تركيا من التحول إلى لاعب أساسي في الحرب على سوريا، خاصةً بقدرتها على استثمار التناقضات بين روسيا والولايات المتحدة، وحرص كلا الطرفين على استقطابها، ما جعلها تندفع نحو الخطة البديلة لتنفيذ الميثاق المللي لعام 2020، الذي يعطيها الدوافع لاحتلال منطقتي شمال سوريا والعراق، وضمهما إلى الدولة التركية.
تعتمد الخطة التركية لضم الأراضي التي احتلتها على الزمن، من خلال اتباع مراحل مختلفة في هذه المناطق، تبدأ أولاً باستخدام ذرائع تهديد أمنها القومي، بحجة وجود تنظيم كردي إرهابي، وضرورة إبعاده عن الحدود التركية لمسافة 30 كم، والاعتماد على تنفيذ هذا العمل على أيدي مرتزقة سوريين، وعلى أيدي الجماعات الإرهابية المتطرفة، ثم تنتقل في المرحلة الثانية إلى إحداث تغيير ديمغرافي في هذه المناطق، بطرد سكانها من السوريين الكُرد، وإحلال عوائل الإرهابيين الذين تم إخراجهم من الغوطة وريف حمص الشمالي وجنوب سوريا، ومناطق واسعة من ريف حماه الشمالي وجنوب وشرق إدلب من المناطق التي تم تحريرها عام 2020، ثم تأت المرحلة الثالثة التي تتطلب ترسيخ الولاء لتركيا، بالعمل على تثبيت ولاء هؤلاء السوريين للدولة التركية ليطالبوا فيما بعد بضم المناطق التي استوطنوها بعد طرد أهلها إلى الدولة التركية.
وفِي صراع مع الزمن تعمل تركيا بشكل متسارع، على تغيير البُنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في هذه المناطق، والدفع نحو عملية التتريك، بنشر التعليم للمناهج التركية، والعمل على الاقتصاد بتداول العملة التركية، بديلاً عن الليرة السورية، وإقامة مراكز للخدمات المالية والمعاملات الرسمية والكهرباء والاتصالات والإنترنيت، وافتتاح مدارس وفروع كليات لجامعات تركية، بالإضافة للعمل الإعلامي على تسويق النجاحات الاقتصادية والتعليمي، والاستقرار الأمني الجاذب للسوريين نحو النموذج التركي، بديلاً عن الدولة السورية.
هل نجحت تركيا في تسويق كل ذلك؟
هناك وقائع على الأرض بالإضافة إلى تقارير دولية رسمية تنفي حصول ذلك، خاصةً بعد تراجع القيمة الشرائية للعملة التركية، وصولاً إلى حاجز ال 13 مقابل الدولار، بعد أن كانت بل الحرب على سوريا لا تتجاوز 1.3.
من ناحية الأمنية فإن الوضع في المناطق التي سيطرت عليها هذه المجموعات الإرهابية، لا ينسجم مع السرديات الإعلامية التي يتم تسويقه، خاصة إذا علمنا العدد الكبير لها وأماكن تموضعها وسيطرتها، والصراعات التي تدور بينها، وعمليات الخطف للمدنيين، خاصةً في منطقة عفرين لابتزاز أهلها المتبقين بدفع الفديات، والدفع بهم نحو مغادرة بيوتهم ومناطقهم، بالإضافة للصراعات الدموية فيما بينهم، وتكاد تكون يومية، ويكفي أن نتابع آسماء هذا التنظيمات التي تقودها جميعاً الاستخبارات التركية، وإماكن تواجدها حتى ندرك وَهْم الاستقرار الأمني، وأن الصراع والتنافس هما الأساس الوحيد لاستمرارهم.
توزع القوى والوضع الآمن
_ هيئة تحرير الشام الواجهة النهائية لجبهة النصرة ( التي اعلنت بيعتها للقاعدة منذ انطلاقها) والتي اتت للقضاء على مايسمى الجيش الحر، بعد ادخالها للشمال ومحاربته وطرده نهائيا، حيث لجأ الى تركيا، الا من بايع جبهة النصرة وانخرط معها، والتي اندمج بها كل التشكيلات الإرهابية بكافة مسمياتها، والتي اندثرت حاليا بتغيير مسمياتها، وهي منتشرة ولها السيطرة الاولى على كافة محاور الشمال السوري المحتل، بالإضافة لإمساكها بكل مفاصل الاقتصاد في المناطق التي تسيطر عليها في إدلب وريف حلب.
عملت الهيئة بسياستين هما الإدماج من جهة، والتحكم بكل المجموعات الجهادية التكفيرية من جهة أُخرى، فكل المسميات الحالية هي تحت قيادتها وإمرتها، رغم اختلاف الجهة الداعمة والممولة، ولو حاولنا إحصاء هذه المجموعات لما استطعنا، ولرسم المشهد وتداعياته على الوضع الأمني في هذه المناطق، وقابليته للانفجار في لحظة، عندما تتناقض مصالح الدول الداعمة والمتبنية لهذه المجموعات، وأهم هذه المجموعات
1- مجموعة أبو مسلم الشيشاني والمدعوم من تركيا وبتمويل قطري، وقد تم زرعه في جبال اللاذقية، منذ استقدامه وكل عناصره من الشيشان، وهو المسيطر الوحيد هناك ولا يسمح بدخول أياً كان للمنطقة، وتم حفر الجبال بتقنيات حديثة، لتكون ملجأ لهم ولعائلاتهم، وتحميهم حتى من اقوى وأدق الصواريخ، وتم إخلائها بالقوة لعدم انصياعه بشكل كامل لقيادة الهيئة والاستخبارات التركية.
2- صقور الشام بقيادة احمد عيسى الشيخ، والذي تموضع على الحدود الشرقية لجبل الزاوية، وعائديته بالأساس لحركة الإخوان المسلمين، وانضوى تحت لواء جبهة النصرة وبايعها بعد طرد الجيش الحر.
3- الجيش الوطني وهو تجميع لكافة الفصائل الارهابية الصغيرة منها والكبيرة والتي كان لها تاريخ اجرامي موثق وهو موالي لتركيا وينتشر في الشمال( ادلب وحلب ) وشرق الفرات، وتغلب عليه الصراعات الدموية البينية المستمرة على المعابر والسرقات، بالإضافة للتنكيل بمن تبقى من السوريين الكرد في عفرين والمناطق المحتلة شمال شرق الفرات.
4-فرقة سليمان شاه بقيادة محمد الجاسم، “العمشات نسبة لقائده ابو عمشة من سهل الغاب”، وينتشر في الشمال السوري على الحدود الغربية لحلب بمواجهة الجيش السوري وله معسكرات على الحدود التركية.
5- فرقة الحمزات بقيادة الملقب (سيف ابو بكر).
6- لواء سمرقند بقيادة ثائر معروف من جبل الزاوية.
7- فرقة السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى.
8- فيلق المجد بقيادة ياسر عبد الرحيم.
9- لواء صقور الشمال ومن متزعميه حسين خيري وهو من حركة الإخوان المسلمين.
10- لواء انصار التوحيد ويتبع لهيئة تحرير الشام، على خطوط المواجهة في سراقب
11- لواء الفاروق بقيادة الضابط المنشق جميل الصالح، وينتشر شمال محافظة ادلب قرب الحدود التركية.
12- قوات الأوزبك، وهي بالكامل عناصر اجنبية من آسيا الوسطى، وبعد أن تم طردهم من الجبهات الغربية لإدلب “ريف جسر الشغور الغربي”، تم توطينهم في اطراف مدينة ادلب الشرقية وافتتحوا لهم معسكرات شمال ادلب قرب الحدود التركية.
كافة القرى في الريف الغربي لمحافظة ادلب المسيحية والعلوية تم طرد اهلها وتوطين شيشانيين وايغور وافغان وغيرهم من المقاتلين وعائلاتهم من آسيا الوسطى، بالإضافة إلى التركستان، الذين ينتشرون في كفرتخاريم ودركوش وسلقين وتحت قيادة الهيئة التي تتسلم كافة مفاصل القيادة.
13- جيش الإسلام الذي أسسه زهران علوش بدعم سعودي والذي يضم المقاتلين الذين تم اخراجهم من الغوطة، وينتشر في سهل الغاب تحت قيادة الهيئة.
14- حراس الدين وهو تنظيم يتبع لتنظيم القاعدة بشكل كامل، وحماية هيئة تحرير الشام، وينتشر في ريف جسر الشغور.
15- أنصار التوحيد وينتشرون شرق ادلب، في منطقتي بنش وسرمين.
وتم تحويل منطقتي كفريا والفوعه إلى منطقة خاصة بالكامل لمجموعات المهاجرين، بعد تهجير أهلها منهما، وإدارة هيئة تحرير الشام.
هذا التنوع الكبير بعدد الفصائل، رغم إنضواء أكثرها تحت جناح الهيئة، لا يتيح الاستقرار الأمني للسكان المدنيين، خاصةً أن التجارب الدموية السابقة فيما بينها لا تعطي الاستقرار النفسي، كما أن أجهزة الاستخبارات الغربية وغير الغربية تعمل بشكل واسع فيها، وهي لها حساباتها الخاصة المرتبطة بمصالح دولها، ولا يمكنها أن تبقى على وئام، بفعل المتغيرات الدولية والإقليمية المستمرة والمتلاحقة، التي تفرض على كل اللاعبين في الحرب السورية إعادة ضبط ساعاتهم على وقعها.
الناحية الاقتصادية والمعاشية
تحولت إدلب وبقية المناطق المحتلة إلى نسيج اجتماعي متنافر، نتيجة اجتماع البيئات السورية المتعددة في بقعة جغرافية صغيرة، من منابت مختلفة بالمزاج وطريقة العيش، ما ترك بآثاره عليهم، خاصةً المقاتلين الذين اختاروا مع عائلاتهم الخروج من مناطقهم، ورفض المصالحات التي كانت تتيح لهم الاستمرار فيها، ما ولَّد حالة اغتراب داخلي، بالإضافة إلى تواجد المجموعات الآسيوية من الأوزبك والشيشان والطاجيك والتركستانيين الإيغور.
وتنقسم المجموعات السكانية في نمط توطنها بين سكان المدن والأرياف، وبين الذين تم توطينهم في مخيمات النزوح التي يتجاوز عددها الخمسة عشر مخيماً، وتحول سكان المخيمات إلى سلاح في يد المشروع الغربي والتركي، يتم إشهاره بشكل دائم ومستمر كقضية أساسية للابتزاز السياسي، انتظاراً لنضوج تسويات سياسية دولية، يتم المراهنة عليها لإحداث تغيير سياسي، يتيح تغيير الاصطفاف الجيوسياسي لدمشق، بما يَصْب في المصلحة الغربية، في إطار المحاولات الأمريكية لاحتواء روسيا والصين، والدفع بإيران لقطع التواصل البري بين المشروع الأوراسي ومبادرة الحزام والطريق.
على الرغم من المحاولات المتسارعة التي تبذلها تركيا، في سعيها لتتريك منطقة شمال سوريا المحتلة، والعمل على ربطها مع لواء إسكندرون المُستلب “هاتاي” وغازي عينتاب، فإن الوضع الاقتصادي في هذه المناطق مازال في حالة انحدار، خاصة، بعد تقلص التمويل للمجموعات المسلحة، كما أن السياسات المتبعة من قبل المنظمات الإنسانية والتركية لا تقوم بإيصال المساعدات الإنسانية كما هي، بعد أن انتشر الفساد بشكل واسع، بالإضافة لاستيلاء الهيئة على قسم كبير من المساعدات، وتوزيعها على عائلات المقاتلين، مع وجود أنباء عن بيعها في الأسواق المحلية.
على الرغم من الشكوك حول مجمل البيانات، التي طرحها الأمين العام للأميم المتحدة”غوتيرش” حول الاحتياجات الإنسانية، وإمكانية تلاعب الحكومة التركية بغاية الابتزاز وتحصيل أكبر نسبة من التمويل، كي تدخل في دورة حلقة الفساد العائلي، فإن الأرقام التي طرحها عن نسبة الاحتياج للمساعدات الإنسانية في المناطق المحتلة، قد تعطي مؤشراً عن حالة إدعاء الوضع الاقتصادي الجيد للسوريين تحت الاحتلال التركي، فقد ذكر التقرير بأن هناك 3.4 مليون سوري بحاجة للمساعدات الإنسانية من أصل 4.2 مليون في هذه المناطق، وقد يصح الرقم على ساكني المخيمات الذين يعانون من أثر النزوح الذين اختاروه، تنفيذاً للسياسات الغربية المتبعة بعد دغدغتهم بالأحلام الاقتصادية، بالإضافة لرفضهم المصالحة مع الحكومة السورية لأسباب تتحملها كل الأطراف.
يدفع جميع السوريون ثمن الحرب على بلادهم، وعدم استيعابهم لمشاريع الفوضى الخلاقة، التي دفعت بها الولايات المتحدة، رغم وقوعهم بين تجربتي لبنان والعراق، الذين خاضا حروباً أهلية مُدمرة، وينتظرون تغير المناخات الدولية كي يجدوا حلاً لمأساتهم، بعد أن انقلبوا على وضع اقتصادي ناهض، تجاوز فيه النمو الاقتصادي 5.6 %، ليصبحو بأغلبيتهم الساحقة تحت خط الفقر بنسبةٍ تجاوزت ال 90 %، فهل يستطيعون اجتراح حل داخلي بعيداً عن مصالح الدول الإقليمية والدولية؟
الأهرام العربي المصرية
Exit mobile version