كتب د . احمد الدرزي | الحسم الروسي شمال سوريا على ضوء المتغيّرات
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ارتفع مستوى التفاؤل بعض الشيء، بعد وصول الجيش السوري إلى مدينة منبج ورفع العلم السوري فيها، ليخفف من منسوب القلق، جراء احتمال حصول غزو عسكري تركي جديد لتل رفعت ومنبج كمرحلة أولى من بين 3 مراحل.
يتعرض الشمال السوري لتهديدات تركية مستمرة باجتياح ما تبقى منه، في سياق غموض المواقف الدولية والإقليمية وتناقضها، فأين تلتقي وتتناقض هذه المواقف؟
على الرغم من تراجع أهمية الملف السوري دولياً، بعد أن تصدرت المواجهة العسكرية الدولية في أوكرانيا مجمل المشهد السياسي الدولي، فإن ذلك لم يمنع من أن يتحوّل هذا الملف إلى نقطة صدام محتملة بين الإرادات الدولية والإقليمية، خاصةً بعد النجاحات الروسية العسكرية والاقتصادية في احتواء الهجوم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، ما دفع إلى الاهتمام من جديد بعودة الصراع من بوابة الشمال والجنوب، استباقاً لما يمكن أن تتركه تداعيات النجاح الروسي حتى الآن في الحرب الأوكرانية.
وتأتي أهمية جبهة الشمال السوري، من كونها تشكل تهديداً لمستقبل سوريا بحدودها وسكانها واقتصادها، بينما تشكل جبهة الجنوب تهديداً مباشراً للعاصمة دمشق، بفعل قربها الشديد من الحدود الأردنية، واستمرار وجود العناصر السورية المسلحة المدعومة من الأردن و”إسرائيل”.
ومن هنا، تأتي أهمية مواقف القوى الدولية والإقليمية الفاعلة تجاه التهديدات التركية الجديدة، وتباينها إلى حد التناقض غير المفسر من بوابة كرد سوريا، الذين تحولوا إلى مساحة للتجاذب الدولي والإقليمي، في إطار الصراع الكبير، بعد أن كانوا في موقع الإغراءات للاصطفاف، فرفضوا بدايةً العرض الذي تقدّم به وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو لصالح مسلم عام 2013، بالبقاء تحت النفوذ التركي، وقطع علاقتهم مع دمشق مقابل فيدرالية كردية في الشمال السوري، فأصبحوا أشد أعداء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي سعى إلى قضم ما يشاء من الأراضي السورية، بعنوان تحقيق الأمن القومي التركي، والقضاء على الإرهاب، رغم رعايته الكاملة لتنظيم “داعش” و”فتح الشام” و “جبهة النصرة”.
تلقفت الولايات المتحدة الأميركية الفرصة، ودخلت بقواتها لتستظل بحماية قوات سوريا الديمقراطية، ليكبر معها مشروع الإدارة الذاتية، بالرغم من عدم ثقة واشنطن بالقادة الكرد، نظراً إلى تبنّيهم الفكر الماركسي اللينيني سابقاً، وتبنّيهم فكرة الأمة الديمقراطية المعارضة لفكرة الدولة القومية، بالإضافة إلى تاريخهم السابق مع دمشق وموسكو، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في محاولات فرضها المجلس الوطني الكردي، الموالي لأربيل وأنقرة وواشنطن.
وعندما عجزت واشنطن عن فرض حلفائها الحقيقيين في الشمال السوري، قبلت بحصار أربيل للمعابر، وهي قبل ذلك غضّت النظر عن اجتياح الجيش التركي لإعزاز وعفرين ومناطق تل أبيض-رأس العين، ما عزز الشكوك لدى القادة الكرد بصوابية الرهان على واشنطن لتحقيق رؤيتهم السياسية والاقتصادية، وارتفع مستوى القلق لديهم، جراء استمرار العلاقة معها، خاصةَ أن الدول العربية المؤيدة لواشنطن والتي كانت تدعم القوى الكردية، أي السعودية والإمارات ومصر، ظهرت بموقف المتردد من التهديدات التركية.
وعلى خلاف واشنطن، فإن موسكو تتعاطى مع القادة الكرد من زاوية صراعها مع الولايات المتحدة، وعلى القادة الكرد أن يتخذوا قرارهم بالخروج من الدائرة الأميركية، والعودة إلى العلاقات التاريخية مع موسكو ودمشق، والتعاطي مع حقوقهم من منطلق الوطنية السورية، وليس القومية الكردية. وعندما تم تجاهل الرؤية الروسية سابقاً، كان الثمن كبيراً، بإعطاء موسكو الضوء الأخضر لأنقرة لاجتياح المناطق الشمالية، بالتنسيق مع واشنطن، التي منحت أنقرة الضوء الأخضر أيضاً.
وقد تغيّر الموقف الروسي أكثر بعد الحرب في أوكرانيا، وأصبحت روسيا أكثر تشدداً في مواجهة الولايات المتحدة على الأرض السورية، بالرغم مما تم تداوله عن تخفيف التزاماتها ووجودها على الأراضي السورية، وأصبحت أكثر اهتماماً بإعادة شمال شرق الفرات إلى كنف الدولة السورية، وأكثر حِدَّة في العلاقة مع وحدات حماية الشعب الكردية، ووضعتها أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما القبول بدخول الجيش السوري إلى عفرين وتل رفعت ورفع العلم السوري، وإما تركها وحدها في مواجهة الجيش التركي، بالإضافة إلى معالجة ملف النفط السوري، الذي لم يعد هناك من مجال للتجارة به إلا عن طريق دمشق، بعد إغلاق المعابر من قبل إقليم أربيل، عدا عن ملف القوى العسكرية المنضوية تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية، التي ما زال الخلاف حولها مستمراً.
ويبقى موقف طهران هو الأوضح بالتعاطي بإيجابية مع مصالح الدولة السورية ومع القادة الكرد، فهي استشعرت مخاطر الاجتياح التركي لعفرين، فأرسلت القوات الرديفة لمنع سقوط عفرين، فاستشهد العشرات منهم، ثم دعمت قوات وحدات حماية الشعب في محيط عفرين، وعارضت كل الخطوات التركية التالية بما في ذلك التهديدات الأخيرة، ولكن الإرادات الدولية فيما مضى، كانت أقوى من أي إرادة إقليمية، أما الآن فإن واقع الحال قد تغير، بعد ارتفاع مستوى التنسيق مع موسكو، وخاصةً ما يتعلق بالمواجهة مع أميركا في سوريا، وحاجة روسيا لإيران في العراق وبقية المناطق.
لقد أصبحت الصورة مختلفة الآن، وهي شديدة الوضوح بمخاطرها على مستقبل الدولة السورية وعلى كردها في الشمال، وهي تتطلب تعاملاً مرناً وواسعاً في آفاقه، والخروج من الرؤية الواحدة لأي طرف من الأطراف، وخاصة بين دمشق وكردها، والنظر إلى مستقبل الجميع، من خلال الرهان على متغيرات دولية وإقليمية قادمة من بوابة نتائج الحرب الأوكرانية، والمواجهة القادمة إثر النكوص عن العودة إلى الاتفاق النووي، وهذا يتطلب تحديد خيارات الاصطفاف، فإما مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وإما مع المحور الآسيوي الصاعد من بحر الصين إلى شرق المتوسط، بعد أن تقلصت هوامش الاختيار والرهانات المدمرة.