الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
على الرغم من ارتفاع حدة التصريحات الأميركية، المعارضة لتقارب الدول الإقليمية المحيطة والمُؤثرة في الحرب السورية من دمشق، فإن جملة المؤشرات تتلاحق من أغلب الأطراف، عدا “إسرائيل”، بالانفتاح على دمشق، والبدء بتشكل بيئة إقليمية لتهدئة منطقة غرب آسيا، بعد أن استنزفتها الكارثة السورية، فهل نشهد تحوّلاً في طبيعة الكارثة السورية، من خلال حل سياسي؟ أم نشهد استمرارها؟
أدت الحرب بتداعياتها الكبيرة، بحكم تداخل الصراع الدولي والإقليمي، وامتداداته الداخلية، إلى انقسام كبير في المجتمع السوري، وخاصةً بعد أن تراجعت سيطرة الدولة السورية على مسارات إدارة المجتمع السوري، ما أدى إلى بروز الهويات ما قبل الوطنية، بأشكالها الإثنية والدينية والمذهبية الطائفية والعشائرية القبلية، وخاصةً تلك التي لها امتدادها الإقليمي.
أدَّى ذلك إلى اصطفافات استقطابية متنابذة بين السوريين، ولعبت سيطرة المجموعات المسلحة المبنية على هذه الهويات، دوراً أساسياً في إيجاد فواصل حدودية في ما بينها، وبين مناطق سيطرة الجيش السوري.
وهذا دفع بمزيد من التغلغل والحضور المؤثر للقوى الإقليمية في الداخل السوري، وعرقلة عودة السوريين للاتفاق في ما بينهم، وعزَّز فعل الدول الإقليمية في الحدث السوري، ولا سيما تركيا، التي استقطبت قرابة 4 ملايين لاجئ سوري على أرضها، بالإضافة إلى 4 ملايين ونصف من السوريين في المناطق التي احتلتها، أو التي سيطرت عليها من خلال المجموعات المسلحة المتنوعة المشارب، في شمال غرب سوريا.
بالإضافة إلى دول الخليج الثلاث (قطر والسعودية والإمارات)، التي عززت وجودها في المجتمع العربي العشائري البنية، وإن قلصت ذلك إلى حد كبير، بفعل القرار السياسي الذاتي.
ولعب العامل الزمني الطويل، على مدى ما يقارب 12 عاماً، دوراً أساسياً في تعزيز الاستقطابات الداخلية، التي ترافقت مع بُنى اقتصادية خاصة بها، ترتبط ببعضها البعض بمعابر اقتصادية، تتيح التبادل التجاري بين مناطق السيطرة المتعددة، ما أفرز مجموعات جديدة، ذات مصالح اقتصادية خاصة، منفصلة عمّا تبقى من سيطرة الدولة السورية بما ساهم في مزيد من العقبات المانعة لإمكانية العودة إلى القاسم الوطني المشترك، الذي لا يوفِّر إمكانية استمرار مثل هذه المصالح المغلفة برداء سياسي.
وعلى مثل هذا الواقع للسوريين المنقسم على نفسه، والمستمر حتى الآن، كانت الحرب، التي أدَّت إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا والمعوقين والمغيّبين، بالإضافة إلى عمليات الانزياح الديموغرافي، نحو الخارج أو الداخل، ما ولَّد مزيداً من العقبات بين أطراف الصراع الداخلي لإمكانية نجاح التقاء السوريين.
ومن جملة العقبات التي تشكلت كآثار للحرب الطويلة، الهجرة السورية المستمرة حتى الآن، وخاصةً شريحة الشباب، التي تمثل النخب الأساسية الضرورية لإعادة بناء الدولة السورية، والذين أبدعوا في بلاد الاغتراب، وأثبتوا نجاحهم الكبير، بفعل توفر بيئة إيجابية لإظهار تفوقهم وإبداعهم في مختلف المجالات، وهم لا يستطيعون العودة لخدمة بلدهم، بغياب بيئة مماثلة، تتيح لهم العمل بطاقاتهم القصوى، وغياب الحوافز المالية، التي تؤمن لهم مستلزمات العيش السليم.
عدا عن هجرة القوى الاقتصادية إلى أصقاع الأرض، وخاصةً تركيا ومصر، اللتين توفران لها مستلزمات الإنتاج، والقدرة على تصدير منتجاتها باسم هذه الدول، ومن دون عقوبات اقتصادية مانعة من ذلك، وهذه القوى أيضاً لا تستطيع العودة للاستثمار في بلدها سوريا، بغياب البيئتين الاستثمارية والتشريعية القادرتين على استقطابها.
كانت بداية التحوّل لمسارات الحرب والصراع الدولي في سوريا، مع فشل الانقلاب العسكري في تركيا، والذي قامت به الولايات المتحدة، ولعبت كل من روسيا وإيران دوراً مهماً في إفشاله، وسبق ذلك الدخول العسكري الروسي المباشر في الحرب السورية إلى جانب إيران وسوريا، وتأسيس ملتقى أستانا الثلاثي، الذي يضم روسيا وتركيا وإيران، لإيجاد مخرج سياسي وعسكري وأمني لسوريا، بما يُخرجها من دائرة الصراع الدولي، والمأزق الداخلي الضاغطين على السوريين.
كان من نتائج ملتقيات أستانا، إنهاء وجود المجموعات المسلحة في مدينة حلب وقسم من ريفها، وريف دمشق وريف حمص الشمالي والجنوبي، ومناطق واسعة من ريف حماه الشمالي وريف إدلب، وفتح طريق M5 بين حلب ودمشق، بالإضافة إلى إخلاء جزئي للمنطقة الجنوبية من المجموعات المسلحة.
وعلى الرغم من تلكؤ هذا الملتقى عن متابعة السياسات التي تم الاتفاق عليها، واحتلال منطقة جرابلس وعفرين والمنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين، من قبل الجيش التركي، فإن إفرازات الحرب الأوكرانية، دفعت الأطراف الثلاثة إلى تبني مشروع إخراج الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا كمرحلة أولى.
هذا المشروع دفع روسيا إلى العمل على توفير بيئة إقليمية مناسبة للعودة إلى سوريا، وإسقاط مبررات استمرار وجود القوات الأميركية في شمال شرق سوريا، وبالتالي إسقاط المشروع الأميركي، الذي يسعى للإبقاء على الوضع السوري على ما هو عليه بالحد الأدنى، بما يتيح استمرار استنزاف روسيا وإيران في سوريا، ومنع تعافي سوريا خدمةً لـ”إسرائيل”، واستمرار تهديد الأمن القومي التركي عبر ما تعمل عليه الإدارة الأميركية من حماية لتجربة سياسية وعسكرية في شمال سوريا، تنظر إليها تركيا وإيران وسوريا بقلقٍ شديد، لما يمكن أن تشكله من تهديد انفصالي داخل الدول الثلاث وفقاً لرؤيتها، بالإضافة إلى دفع الدول العربية للمساهمة في عودة سوريا إلى الإطار العربي، وخاصةً السعودية والإمارات.
كل هذه القوى التي خاضت صراعاتها على الساحة السورية، وفي ظل الانكفاء الأميركي المتسارع بعد الحرب في أوكرانيا، وسَّعت هامش خياراتها، ودفعت بها إلى مزيد من التلاقي مع موسكو، ما يساهم في مزيد من إمكانياتها على الانزياح عن الولايات المتحدة، في اتجاه القوى الآسيوية الصاعدة، ليكون لها دور أكبر في النظام الدولي قيد الولادة، وخاصةً روسيا التي استطاعت تحدي حلف “الناتو” في أوكرانيا، والتي تلعب دوراً محورياً في المصالحة السورية التركية، بعد أن طلب المرشد الأعلى للثورة في إيران السيد الخامنئي، من الرئيس الروسي بوتين، العمل على التلاقي التركي- السوري، بما يحفظ وحدة الأراضي السورية وسيادتها واستقلالها، وخاصةً أن العامل التركي هو الأكثر تأثيراً في الكارثة السورية، والأكثر تأثراً من ارتداداتها عليه أيضاً.
يعتمد نجاح روسيا في مهمتها مع تركيا، على مدى قدرتها على إزالة العقبات الأربع الأساسية، التي تم ذكرها سابقاً، ووفقاً للواقع الحالي لكل القوى، وما تملكه من أوراق قوة، وما يترك ذلك من آثار في طبيعة الحل السوري الذي يحتاجه الجميع، والذي لا يمكن أن يُنجز إلا في إطار إقليمي، يتيح إخراج سوريا من العطالة الذاتية التي وصلت إليها، والتي تتطلب حلاً سياسياً سورياً، يتيح للجيش السوري أو حرس الحدود، الانتشار على كامل المناطق الحدودية، في مقابل إيقاف تركيا عمليات التتريك، والقبول بالانسحاب الكلي من كامل الأراضي السورية التي احتلتها في هذه الحرب، ويتيح للاجئين السوريين العودة إلى مناطقهم وبيوتهم وأراضيهم، ويتيح أيضاً تطبيق القرار 2254 وفقاً لرؤية القوى الآسيوية وليس لرؤية الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
وقد يدفع هذا نحو حل سياسي، تساهم فيه المعارضة السورية، التي تشدد على التموضع الجيوسياسي لسوريا شرقاً، ولم تمارس العنف والتطييف، ولا يُستبعد أن يكون لقوى المجتمع المدني المقبولة من الطرفين دور مهم في المساهمة في هذا الحل السوري، وإعادة بناء الحياة السياسية، على أسس جديدة، وتنظيم إداري جديد للمناطق.
وفي المحصلة، فإن نتائج الحرب خلال هذه المدة الزمنية الطويلة أوصلتنا إلى نتيجة أساسية، فبين طموحات إسقاط النظام السياسي في دمشق وبين العمل على إبقاء البنية السياسية وفقاً لصيغة ما قبل منتصف آذار/ مارس 2011، تولد تصورات جديدة لا تلغي أحداً وتدفع نحو نقطة مشتركة كمرحلة مؤقتة، مبنية على شراكة وطنية، وفقاً لنتائج الاصطفافات الجيوسياسية المستجدة في الصراع الدولي.