الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
روسيا: “نُعَوِّل على الصين من أجل فرض توازن القوى العالمي مع واشنطن وأوروبا”.
لم يكن الرابع من شباط/فبراير لهذا العام يوماً عادياً، ففيه وقّع الرئيسان شي جين بينغ وفلاديمير بوتين على اتفاق التحدّي، وأظهرا للعالم أجمع أن شراكتهما أبعد كثيراً من مصطلح الحلف، وأقل من الاندماج، فتردّد صداه في كل العواصم، بما في ذلك دمشق، التي أُصيبت بالإرهاق، وهي تصارع ذاتها والعالم، من أجل الخروج من مأزقها الداخلي، الذي لا ينفصل عن الخارج، وتنتظر انعكاس هذا الصدى عليها.
تخوض الصين وروسيا، مشتركتَين، صراعاً متدرجاً مع النظام العالمي القطبي الوحيد، والذي تَشكَّلَ بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي، فكانت الشراكة الاستراتيجية الجديدة عام 1996، والتي لم تعطِ تصوراً حقيقياً عن مدى التهديدات، التي يمكن لهذه الشراكة أن تسببها لواشنطن.
كان للحرب على سوريا، موقعاً وتاريخاً، دورٌ أساسيٌّ في إظهار حجم العلاقة بين الطرفين، بعد يقين الدولتين بأنهما المُستهدفَتان الأساسيتان لـ”ثورات الربيع العربي”، بالإضافة إلى إيران التي تشكل القوة العسكرية الصادمة في غربي آسيا، والتي عملت عليها الإدارات الأميركية المتلاحقة، الأمر الذي دفعهما إلى التصدي السياسي للحرب، عبر منع إعطاء مظلة شرعية دولية في مجلس الأمن، للتدخل العسكري المباشر في سوريا، كما حدث في ليبيا.
وفَّر التآزر السياسي الروسي الصيني، في الحرب السورية، فرصة كبيرة لروسيا والصين من أجل إخراج البعد الحقيقي لطبيعة الشراكة بينهما إلى العلن، لكن البُعد العسكري كان منوطاً بإيران وروسيا بصورة متتالية، فدخلت إيران وحزب الله وقوى عراقية أولاً، ثم شاركت روسيا في نهاية أيلول/سبتمبر 2015.
شكّلت الحرب في سوريا هاجساً للأمن القومي الروسي الصيني الإيراني، الأمر الذي دفع الدول الثلاث بعيداً في مواجهة مشروع الولايات المتحدة فيها، كما أنها شكلت فرصة للأطراف الثلاثة، وخصوصاً بالنسبة إلى موسكو، التي عملت على مدى أكثر من قرنين من أجل الوصول إلى المياه الدافئة، وهذا ما حققته بعد توسيع مطار حميميم، وتحويل أغلبيته إلى قاعدة عسكرية جوية، في مواجهة قاعدة أنجرليك للناتو في تركيا، بالإضافة إلى القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس.
فرض الدور العسكري الروسي المباشِر نفسه على طبيعة الاتفاق مع الصين، التي أحجمت عن التدخل العسكري، نتيجةً لاستراتيجيتها المبنية على استراتيجية دفاعية فقط، الأمر الذي فرض معادلة بين الطرفين، تكون فيها موسكو صاحبة الدور الأساس، وتحتاج بكين إلى التوافق مع موسكو في تحقيق مشروعها “مبادرة الحزام والطريق”.
تغيّرت أحوال الدولتين مع عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وظهرت عدوانية أميركا الكبيرة في طريقة التعاطي العدواني مع روسيا، في الدرجة الأولى، ومع الصين المؤجَّلة إلى المرحلة التالية، في الدرجة الثانية. ولمس الطرفان هذا التحول من خلال محاولات واشنطن تحريك الثورات الملوَّنة في هونغ كونغ وفي موسكو. وبعد الفشل، تحوّلت إلى سياسات عدوانية جديدة، عبر إنشاء تحالف عسكري جديد، “أوكوس”، ضد الصين، ومحاولة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو.
تشكّل كل من تايوان وأوكرانيا أولوية قصوى لكل دولة، فتايوان لا تزال تشكل تهديداً مستمراً للصين، بحكم الوجود الأميركي الذرائعي فيها، من أجل منع عودتها إلى الوطن الأم من جهة، وتهديد الممر البحري الفاصل بينهما، والذي يشكّل عصباً للتجارة البحرية. كما أن بكين لا يمكنها التنازل عن تايوان، لأن هذا أمر يمس سيادتها وعنوان وحدتها الكاملة، بالإضافة إلى ما تشكله تايوان من إضافة مهمة جداً إلى التكنولوجيا الصينية، باستحواذها على أهم المعامل المنتجة للمعالِجات، وخصوصاً بعد العقوبات الأميركية على الصين.
وتشكل أوكرانيا الملف الأهم في الاستراتيجية الروسية، وهي أولوية قصوى لها، وخصوصاً إذا استطاعت واشنطن ضمّها إلى حلف الناتو، بالإضافة إلى أهميتها التاريخية، والتي لا تنفصل عن التاريخ الروسي الإمبراطوري. وهي واقعاً أساس روسيا التاريخية، ولا تزال في الوجدان الروسي جزءاً من روسيا.
أولوية الملفين لكِلا البلدين تدفعهما إلى التعاطي مع سائر الملفات من موقع ساحات الصراع المتعددة. فالنظام الدولي الجديد، والذي تم إعلانه من بكين، لا يمكن له أن يثبّت قدميه واقعاً إلاّ بعودة تايوان إلى الصين، وخروج الولايات المتحدة من بحر الصين والمحيط الهادي، وبالتوازي بعودة أوكرانيا إلى روسيا، أو عزلها عن البحر الأسود، وإفقادها دور الخاصرة الرخوة، وإقرار الولايات المتحدة وأوروبا بهواجس الأمن القومي الروسي، ليس في أوكرانيا فقط، بل في كل أوروبا الشرقية.
يرتبط مستقبل سوريا، في الدرجة الأولى، بنتيجة الصراع في أوكرانيا، فقد تتحول الضغوط المتبادَلة بين الأميركيين والروس، الذين يؤازرهم الصينيون، إلى الساحة السورية. ومن الصعب على واشنطن أن تخسر معركة أوكرانيا، ففي ذلك فقدانها استمرارها قطباً وحيداً، بالإضافة إلى تراجع موثوقيتها لدى من يدور في فلكها، وخصوصاً بعد خروجها المُذِلّ من أفغانستان، وما قد يترك من آثار في النظام المالي العالمي المرتبط بالدولار.
كما أن موسكو لا يمكن أن تتراجع عن مطالباتها، ففي ذلك هزيمة قد تنعكس على مجمل إنجازاتها، بعد عودتها إلى المسرح الدولي، ولها مصلحة الآن مع الصين في إخراج الأميركيين من سوريا، الأمر الذي يتيح التواصل البري من شانغهاي إلى شرقي المتوسط.
يبقى الوضع السوري هو الأصعب في منطقة غربي آسيا، وربما في العالم أجمع، وهو غير قابل للحل في المدى القريب، إلاّ إذا تغيَّرت معطيات الصراع، دولياً وإقليمياً، خلال الأشهر والسنوات المقبلة، وخصوصاً إذا تمت العودة إلى الاتفاق النووي، الذي سيترك آثاره الإيجابية في كل المنطقة، لكن من دون الوصول إلى مرحلة الاستقرار والنهوض. والأمر يتطلب التعاطي مع المبادرة الصينية تجاه سوريا بجدية أكبر وبرؤية مغايرة، وخصوصاً أن التفاهم الروسي الصيني بشأن طريقة التعاطي مع سوريا سقط، مع توقيع اتفاق شراكة المواجهة مع الولايات المتحدة وأوروبا، والاندفاعة الصينية المباشِرة نحو دمشق، والعمل على تنفيذ مذكِّرات التفاهم بين البلدين. فالصين هي الوحيدة التي تمتلك الهامشين الاقتصادي والتكنولوجي، القادرين على إنقاذ سوريا من تداعيات تدهور الوضع الاقتصادي غير المُحتمَل للسوريين، بمساعدة إيرانية، وقبول روسي. فهل تندفع دمشق نحو تسهيل الحضور الصيني، من خلال إجراءات تشريعية واقتصادية مغايرة لكل المرحلة السابقة؟