كتب د . احمد الدرزي | الانفراج السوري والبيئة الإقليمية المتغيرة
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
تتلاحق الأحداث المحيطة بسوريا، بسرعة تفوق المتوقع، بما يخلخل كل العوامل التي أدت إلى هذه الحرب فيها، على رغم الضغط الهائل على السوريين في الداخل وفي الخارج، الأمر الذي يدفع السوريين إلى التساؤل عن صدق الانفراج عليهم، ومتى ينعكس ذلك؟
على الرغم من حاجة السوريين إلى إجراءات تغيير واسعة، في بنيتهم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فإن ما أفرزته الحرب من نتائج، أكدت ارتباطها بمقدماتها الحقيقية، التي لم تكن سوى صراع مركّب متداخل لمستويات محلية وإقليمية ودولية، تحت عنوان الصراع بين نظام دولي وحيد القطب، يسعى لاستمرار ديمومته وهيمنته على مقدِّرات البشرية، وبين قوى آسيوية ناهضة، تعمل على إحلال نظام دولي جديد متعدد الأقطاب والسياسات والثقافات.
استطاعت القوى الآسيوية الناهضة، وخصوصاً روسيا وإيران، منع تغيير التوجهات الجيوسياسية لسوريا نحو الغرب، وحسمت الحرب، إلى حد كبير، توجهات مسارات التاريخ العالمية من البوابة السورية، التي أتاحت الفرصة لأغلبية الدول المحيطة بسوريا، في إعادة ترتيب أولوياتها السياسية، داخلياً وخارجياً، فأسقطت مصر تجربة الإسلام السياسي الممثَّلة بالإخوان المسلمين، وتلتها السعودية بإنهاء المسار السلفي الداخلي بتداعياته الخارجية، وانتقلت نحو تلمس تجربة مغايرة، خارج الإطار الأميركي والإطار الغربي، بصورة عامةً.
بدأ الانزياح الحقيقي للخروج من العباءة الأميركية، بعد تحول الحرب إلى أوكرانيا، كساحة رئيسة ونهائية للصراع، بين عالم قديم في طور الانكفاء، وعالم جديد في طور الظهور والتبلور. فكانت هذه الحرب هي الاختبار الحقيقي لولادة إرادات حرة في منطقة غربي آسيا. وأكثر ما تبلور ذلك في موقف السعودية، التي استحوذت على مكانة مركز الثِّقل العربي، بعد تخلْي مصر عن دورها، في إثر اتفاقية كامب ديڤيد عام 1978.
بدأت الانفراجات السياسية والعسكرية من حول سوريا وتجاهها، بدايةً من منصة أستانا الثلاثية، لكل من روسيا وإيران وتركيا، والتي كانت السبب في تغير الخريطة العسكرية في سوريا، مع بقاء الشمال السوري خارج السيطرة الرسمية، في انتظار حدوث المصالحة السورية التركية النهائية، بعد جملة الخطوات الأمنية والعسكرية.
بدأت ثمار الانفراجات السياسية المتسارعة، بعد إعلان الاتفاق السعودي الإيراني من البوابة الصينية، بدلالة واضحة على طبيعة المتغيرات الجذرية، في البنية السياسية لإقليم غربي آسيا، ووضوح الاصطفافات المتوازنة للدول التي تُعَدّ الركيزة الأساس في النظام المالي العالمي، من خلال نظام البترودولار، والذي بنت من خلاله الولايات المتحدة هيمنتها على الاقتصاد العالمي.
أدركت كل الدول الإقليمية المحيطة بسوريا، والتي تدخلت في الحرب فيها، أن هذا النظام الإقليمي الجديد، والذي تُشارك في بنائه بفعالية، لا يمكن له النجاح، إلّا بتحقيق الاستقرار في دولها كمستوى أول، وهذا ما أدركته السعودية بصورة أساسية، وهي التي تسعى لبناء نمط جديد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية الداخلية، ضمن مشروع “السعودية 2030”.
وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه باستمرار حربها في اليمن، الذي أصبح تهديداً مستمراً لها عبر قدرته على تحدّي كل سياسات القوى التي حاربته.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المحور، الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، استطاع أن يُثبت للجميع أنه المتحكم الأساس في الجغرافيا السياسية للعالم القديم، ولا يمكن تجاوزه أو إسقاطه، وفي يده أوراق جغرافيا الممرات البرية بين الشمال والجنوب، وبين روسيا والهند والخليج وشمال أفريقيا.
كما أنه يمسك أوراق القوة بين الشرق الصيني الأقصى وشرقي البحر المتوسط، الذي يُعَدّ مركزاً أساسياً للتجارة العالمية، بالإضافة إلى إمساكه المقاومة الفلسطينية في وجه”إسرائيل”، التي تُعَدّ المعرقل الأساس لأي مشروع إقليمي، لا يمنحها الأمان والريادة عليه.
كان شهر آذار/مارس مليئاً بالأحداث المتسارعة والمفاجئة للكثيرين، على إيقاع بحث جميع الدول عن الاستقرار، إن كان بزيارة الرئيس الأسد الرسمية لكلٍّ من روسيا والإمارات العربية المتحدة، وقبلهما لعُمان، أو بزيارة وزير الخارجية المصري السابقة لكل من دمشق وأنقرة، وردّها وزير الخارجية التركي إلى مصر، وأتبع كل ذلك الموقف السعودي الواضح ببدء خطوات الانفتاح على سوريا، وافتتاح القنصلية السعودية، قبل الافتتاح الكامل، وزيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان لدمشق، والتي من المفترض أن تُتوَّج بلقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس بشار الأسد، لإعلان نهاية حقبة عصيبة على السوريين، لم يشهدوها منذ خمسة آلاف عام.
كل المؤشرات تؤكد أن سوريا مقبلة على انفراج ليس بالقليل، لكن دونه ثلاث عقبات أساسية، هي الاحتلال الأميركي لشمالي شرقي سوريا، وهو الحريص على بقاء سوريا غير قابلة للحياة، والعمل على احتوائها، وهذا الأمر يمكن العمل على إزالتها، مع بدء المواجهات العسكرية بينها وبين إيران وسوريا في مناطق وجود قواتها، بالإضافة إلى الطيران الروسي الذي يحلق باستمرار فوق مناطق قاعدة التنف، بتعبير واضح عن مدى التنسيق الإيراني الروسي السوري لإخراج الولايات المتحدة من سوريا والعراق.
وهناك العقبة “الإسرائيلية”، التي لا يمكنها أن تسمح بانتهاء دورها الوظيفي، وهي تعيش هاجس عقدة الأعوام الثمانين، وفق اعتقادها بنهاية الدولة قريباً، مع انقسام داخلي هو أقرب إلى الحرب الأهلية، في مقابل جاهزية كبرى للحرب من جانب كل قوى المقاومة داخلها وفي محيطها. والخط العام يشير إلى أن الحرب الكبرى أقرب أكثر من أي وقت، مع التصميم على إزالة هذه العقبة بصورة نهائية.
قد تكون العقبة الثالثة هي الأصعب على السوريين، الذين يلاحظون حجم متغيرات البيئة الإقليمية الإيجابية المحيطة بهم وتجاههم، ويتساءلون بعد تجربة مريرة، من تجربة الحرب وما أفرزته من نتائج كارثية، فهل يمكن إحداث انفراج اقتصادي بغياب إرادة التغيير؟ وهل يمكن أن تمتلك الأدوات الإدارية لعملية التغيير، في حال توافرت الإرادة؟ وهل يمكن للإرادة أن تتحقق في غياب حل سياسي داخلي، يتيح البروز لقوى وطنية شابة في الداخل والخارج، للعمل على التغيير؟
هذه الأسئلة الثلاثة تحتاج إلى إجابات واضحة قبل بدء استكشاف إمكان جني ثمار البقاء السوري وتحديه، ليصبح الأمل والتفاؤل حقيقة لا لبس فيها.