كتب د . احمد الدرزي | الانتخابات التركية وسوريا المترقّبة
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
يقف السوريون من مستقبل نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، كما كانوا من 12 عاماً، وحتى الآن، بترقّب وحذر، من نتائج هذه الانتخابات وما يمكن أن تنعكس على مستقبلهم، ومستقبل بلادهم، وهم منقسمون بطبيعة الحال، كما في كل شيء، وخاصةً بأن حساباتهم وهواجسهم متباينة تبعاً لكل طرف، بعد أن تحدّدت النتائج بين خيارين متقاربين بنسبة النجاح، فأيّ مستقبل لسوريا التي لا يمكن لها أن تتجاوز حقائق الجغرافيا والتاريخ؟
والملفت للنظر أن أطراف الانقسام السوري الثلاثة، لهم رهاناتهم المتباينة من جهة، والمتوافقة من جهة أخرى، بشكل عجيب يدعو إلى التأمّل بما وصلت إليه حالهم، برهاناتها على مآلات الاصطفافات الإقليمية والدولية، بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، وما يمكن أن تدفع لإعادة التفكير باصطفافات ورهانات مختلفة.
تحوّلت الانتخابات التركية، إلى نقطة مفصلية لأطراف الصراع الداخلي، بحكم الرهانات الدولية والإقليمية شديدة الاستقطاب، وهي بنتائجها المتوخاة، جزء من الصراع الدولي، بعد أن تجلَّت بالمواقف الحادة والداعمة لطرفي الصراع الداخلي التركي، حيث تقف كل من روسيا والصين كقوى عظمى، مع الخيار الأوحد لهما، متمثّلاً بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إضافة إلى الرهان الإقليمي لكلّ من إيران والسعودية والإمارات ومصر، التي ترى بأن نجاح إردوغان، بمثابة استكمال لبنية النظام الإقليمي، في منطقة غرب آسيا، وتحقيق المزيد من “الاستقلال الاستراتيجي”، وهو المصطلح الذي رفعه الرئيس شي جين بينغ.
في المقلب الآخر نشهد الموقف الأميركي، ومعه دول الاتحاد الأوروبي، شديدة العداء لاستمرار تجربة حزب العدالة والتنمية، وتقف موقف الداعم للمرشح كمال كليجدار أوغلو، وتراهن بنجاحه لتقويض الانزياح التركي نحو القوى الآسيوية، وأملاً باستعادة تركيا، التي تمثّل عنصراً أساسياً لإعاقة نجاح المشروعين الأوراسي والصيني، وكلا المشروعين، يستندان بنجاحهما على استكمال تركيا لاصطفافها الآسيوي.
تقف دمشق موقفاً حذراً من إعلان تأييدها، أو تبنِّيها لأي طرف منهما، فهي على المستوى التكتيكي القريب، ترى أن كمال كليجدار أوغلو أقرب إليها وأكثر انسجاماً مع مستقبلها السياسي، فهو بتوجّهاته السياسية منذ بدء الحرب في سوريا أكثر تفهّماً وقرباً من الموقف السوري، إن كان بمعارضته للتورّط التركي الكبير والواسع في الحرب السورية، أم بتعهّده بالتوجّه نحو دمشق كأوّل محطة له في سياساته الخارجية، للتصالح، والاتفاق معها على مشروع إعادة اللاجئين السوريين، على مدى سنتين، أم بتبنّيه لإقامة “مجلس التعاون الإقليمي”، الذي يضم كلاً من تركيا وإيران وسوريا والعراق، وهو بهذه الحال، يرى بأن مصلحة تركيا العلمانية بتفكيك كل المجموعات الإسلامية المسلحة، التي ساهمت أنقرة بتشكيلها في الشمال السوري.
على العكس من نجاح الرئيس إردوغان في هذه الانتخابات، الذي ما زال يشكّل خصماً عنيداً لها، على الرغم من المساعي الروسية والإيرانية، لإحداث تقارب سوري تركي، ينتهي بلقاء الرئيسين، قبل الانتخابات الرئاسية، فلم تفلح كل الضغوط الروسية التي مورست لأجل حصول هذا اللقاء، بفعل الخلاف بين الطرفين حول شروطه، الذي أرادته دمشق فرصة لوضع خطة زمنية لانسحاب تركيا من الأراضي التي احتلتها، إضافة إلى مسألة المياه، واتفاق أضنة، بينما بقي الموقف التركي متصلّباً برفضه اللقاء بوجود أي شروط، وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو بعد اللقاء الرباعي الأخير في موسكو، الذي أعطى تفاؤلاً بقرب حصوله قريباً، ولكن من دون شروط مسبقة.
ولكن دمشق حذرة على المستوى الاستراتيجي، وخاصةً بعد أن أصبح واضحاً حجم دعم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لفوز كمال كليجدار أوغلو بالانتخابات الرئاسية، لأن ذلك يحمل مخاطر كبيرة من عودة الناتو بقوة إلى سياسات تركيا الخارجية، وما يمكن أن يترك ذلك من آثار كبيرة على قدرته، على ترجمة سياساته تجاه سوريا من جهة، وعلى سياسات كل من إيران وروسيا والصين، بما يُترجم ذلك باستمرار الصراع في سوريا وعليها.
بينما فوز الرئيس إردوغان سيدفع أكثر نحو بناء نظام إقليمي، في غرب آسيا، ينسجم مع المتغيّرات الدولية والإقليمية المتسارعة، وهي بنتائجها ستقلِّص من قدرة الأميركيين خاصةً، والغرب عامةً، على عرقلة تجاوز دمشق للعقوبات السياسية والاقتصادية، وهي في الوقت نفسه قد تدفع بالرئيس إردوغان لتنفيذ ضماناته الشفوية للرئيس الروسي بوتين، بالانسحاب من سوريا، وإعادة سيطرة دمشق على كل الأراضي السورية، ولكن أي دمشق يقصد بذلك؟
والطرف الثاني في المعادلة السورية هم الكرد عامةً، وخاصةً حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يمثّل الحامل الحقيقي لقضية كُرد سوريا، فإن موقفه واضح من الانتخابات التركية، فهو مع وجهه الكردي التركي “حزب الشعوب الديمقراطي”، الذي تحوّل إلى رقم صعب في الانتخابات التركية، وهو يمثّل بيضة القبان بالنسبة لكمال كليجدار أوغلو بالذات، وليس حزب الشعب الجمهوري، كما عبَّروا عن ذلك، وهم سيشكّلون جزءاً مهماً من قرار التوليفة السياسية الحاكمة، في حال نجاحها، مما سينعكس ذلك على الموقف السياسي التركي تجاه قضيتهم في سوريا، وسيحسّن من موقفهم التفاوضي مع دمشق، التي تسلّحت بالموقف العربي تجاههم، وتجاه بقية الأطراف الداخلية في مسعى لاستمرار البنية السياسية الحالية.
وهم على العكس من ذلك في حال فوز الرئيس إردوغان، الذي سيستثمر أكثر من انتصاره، وحاجة كل من روسيا والصين وإيران والسعودية بشكل أساسي لموقع تركيا الجيوسياسي، مما سيزيد من نسبة الضغوط على بقاء تجربتهم بشكلها الحالي، وربما العمل على استئصالها بشكل كامل، وإن كان في ذلك صعوبة.
تشكّل المجموعات المسلحة الإسلامية الطرف الثالث في المعادلة السورية، وهي أكثر الأطراف قلقاً، فهي تراهن بشكل صريح، على نجاح إردوغان بالحكم، وهو ضمانتها الوحيدة للبقاء، وغير ذلك فإنها ستكون الضحية الأولى لنجاح كليجدار أوغلو، رغم رهانهم على الولايات المتحدة، التي يمكن أن تؤدي دوراً حامياً لهم، طالما أن وظيفتهم الأساسية في الصراع الدولي لم تنتهِ بعد.
وكذلك الأمر بالنسبة للاجئين السوريين في تركيا، ومن خارج توجّهاتهم السياسية، فإن الأغلبية الكبيرة منهم ترى باستمرار إردوغان في الحكم ضمانة أساسية لاستمرار بقائهم في تركيا، مع أعمالهم، وأن العودة إلى سوريا ضمن هذه الظروف الحالية، بمثابة إنهاءٍ لهم، لغياب الشروط الأساسية للحياة والعمل.
على الرغم من التباينات والتوافقات بين السوريين المنقسمين، فإن واقع نتائج الانتخابات التركية، سيترك آثاره العميقة على مستقبل سوريا، وسيدفع بالسوريين لتدوير الزوايا، للتأقلم مع هذه النتائج، والتي أياً كان الفائز فيها، فإننا سنشهد تغييراً في السياسة التركية، وعلى السوريين جميعاً أن يستعدوا للمرحلة المقبلة.