الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
تحلُّ بعد شهر الذكرى الحادية عشرة لبداية الكارثة الي حلًَّت بسوريا، وهي ماتزال ضمن متاهة انتظار نتائج الصراع الدولي الذي انفجر فيها، إثرَ وصول الفوضى الخلاقة، التي فجرتها الولايات المتحدة إبتداءً من تونس، وعلى أمل أن ينتهي هذا الصراع قريباً من بوابة أوكرانيا، مع الخشية من انفجار الصراع حول تايوان، الذي من الممكن أن يدفع بالمزيد من التأزيم للملف السوري.
أدركت روسيا من لحظة اندلاع الاضطرابات في تونس بنهاية عام 2010، بأنها أمام أحداث ستمتد طويلاً، وأن “الاضطرابات في المنطقة العربية ستستمر لعقد كامل من الزمن”، وأنها أحد أهم المستهدفين بما حصل، بالإضافة للصين وإيران اللتين تيقنتا مع روسيا بأن الأمن القومي لهم ضمن دائرة التهديد.
تشكل أوكرانيا أولوية قصوى لروسيا، وهي التي تعتبر الأصل الأصل التاريخي الأولي لنشوء الإمبراطورية الروسية، وهي لم تتشكل كدولة إلا في عام 1923، ضمن إطار الاتحاد السوڤييتي بعد الثورة البلشفية عام 1917، بمبادرة من فلاديمير لينين كشكل من التنظيم الإداري للإمبراطورية الجديدة.
كما أنها تشكل الخاصرة الرخوة لروسيا عبر تاريخها منذ القرن الحادي عشر الميلادي، فطبيعتها الجغرافية السهلية سمحت بوصول كل التهديدات الغربية إلى عمق روسيا، ومنها دخلت جيوش البولنديين والفرنسيين والألمان، وهي تشكل الآن الحاجز الدفاعي الأخير أمام توسع حلف الناتو، للوصول إلى أقرب نقطة من موسكو، التي لا تبتعد سوى دقائق عن مدى الصواريخ التي ستُنصب على الحدود بين البلدين في حال نجحت الولايات المتحدة من ضمها إلى حلف الناتو.
وهذا ما يفرقها عن أهمية سوريا، التي شكلت الخط الدفاعي الثاني عن روسيا، بالإضافة لتحول سوريا من تهديد إلى فرصة، بعد وصولها إلى المياه الدافئة، والتموضع في شرق البحر الأبيض المتوسط، في اللاذقية وطرطوس.
تحول الصراع في أوكرانيا إلى نقطة مفصلية في وجود روسيا من جهة، وإلى فرصة جديدة للدخول إلى النظام الدولي الجديد، الذي تم الإعلان عنه في بكين، بعد أن وقع الرئيسين الصيني شي جين بينغ و الروسي فلاديمير بوتين على اتفاق الشراكة، الذي تجاوز مصطلح التحالف لمن قرأ البيان المشترك في بكين، في الرابع من شهر شباط/فبراير لهذا العام.
من هذا المنطلق فإن سوريا تترقب نتائج الصراع المحتدم في أوكرانيا، فهي أمام سيناريوهات مختلفة، وفقاً لمسار الصراع ونتائجه، ففي السيناريو الأول الذي يمكن أن تنزلق فيه الأمور نحو المواجهة العسكرية المستبعدة حتى الآن، فإن قدرة موسكو على الحسم السريع كما حصل في الشيشان وجورجيا، هو من سيحدد ترددات ذلك في سوريا، ما يجعل من الإدارة الأمريكية في الموقع الحرج بتتالي هزائمها، بعد الخروج المُذل من أفغانستان، وسيجعل من إمكانية بقاء القوات الأمريكية في منطقة الجزيرة السورية والتنف أمراً بالغ الصعوبة، ويرفع الغطاء عن القوى السياسية والعسكرية، التي تراهن على بقاء القوات الأمريكية، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، ما يجعل ما كسبته خلال الأعوام السابقة رهناً لحجم الترددات، والعودة للبحث عن غطاء روسي كبديل عن الأمريكي.
وهذا الأمر سيلقي بظلاله على تركيا، التي تعتمد باحتلالها لمناطق الشمال السوري على توافق الضوئن الأخضرين لكل من موسكو وواشنطن، ما يفقدها إمكانية المناورة بين الطرفين، والذهاب نحو تحقيق مكاسب أقل، بما يتناسب مع أهميتها الجيوسياسية والاقتصادية.
وفي حال لم يكن الحسم سريعاً، فإن السيناريو الثاني سيلقي بمفاعيله على الصراع في سوريا، ويجعل من الساحة السورية موقعاً للمواجهات غير المباشرة بين الطرفين، ويزيد من حجم الضغوط الاقتصادية على السوريين في كل المناطق، التي تقع تحت سيطرة الدولة السورية أو الخارجة عنها، ويؤجل الانفراج المأمول تحقيقه.
يبقى السيناريو الثالث وهو الأكثر احتمالاً، باللجوء إلى الحل الدبلوماسي، الذي يستطيع إيجاد مخارج للطرفين، بتحويل أوكرانيا إلى منطقة حيادية بينهما، ما سيترك آثاره على سوريا، بالعودة إلى التوافق السابق، بما يضمن مصالح الدولتين العُظميين، وهو بالتالي لن يكون لصالح السوريين، الذين يسقون مقسمين بين الدولتين، بالإضافة لاستمرار الاحتلال التركي لمنطقة الشمال السوري.
أو الذهاب نحو صراع سياسي طويل المدى، لحين إقرار الإدارة الأمريكية بواقع القوة الروسية، بالإضافة للاعتراف بالأمن القومي الروسي، ليس في أوكرانيا فقط، وإنما في كل دول أوروبا الشرقية التي انضمت للحلف، وهذا سيجعل من أوروبا بأكملها مكشوفة على نتائج الصراع، التي تعطي مؤشراته الأولى برجحان الإرادة الروسية، التي لا يمكنها أن تخسر معركتها في أوكرانيا، خاصةً أن الصين تؤازرها في معركتها، وكذلك إيران التي تراهن على الشراكة مع الصين وروسيا، لتغيير النظام الإقليمي،
لاشك بأن نتائج الصراع في أوكرانيا لن تؤثر فقط على سوريا فقط، بل على منطقة غرب آسيا بأكمله وشمال إفريقيا، وستظهر النتائج على جميع الشعوب والدول إبتداءً من البوابة السورية، التي سترسم من خلالها الاصطفافات الإقليمية الجديدة في نظام إقليمي جديد، عرّابته موسكو، وهو نظام إقليمي ليس بالضرورة لصالح دوله التي لم تشارك بتشكيله.
الأهرام العربي