كتب د . أحمد عز الدين | محاولة لفهم الخصوصية المصرية
الدكتور أحمد عز الدين | كاتب وباحث مصري في الشؤون الإستراتيجية
في البدء كانت مصر ، أول أمة في التاريخ ، ثم أول دولة ، ثم أول وأطول إمبراطورية ، وهي بالتالي أقدم وأطول وأثبت دولة في التاريخ الإنساني كله ، ولا خلاف بين صفوة علماء الحضارة والتاريخ ، في ربوع الدنيا الواسعة ، بصدد ذلك ، فليس ثمة من يختلف حوله أو عليه.
وإذا كانت قد حققت السبق بجدارة في ولادتها التي استبقت مجد الحضارة الإنسانية ، أو التي مثلت بصدق فجرها المبكر البكر ، فقد حققت السبق بجدارة – أيضا – في استمرارها وتواصلها ، حيث حافظت على كيانها القومي ، ووحدتها العضوية ، دون أن تكون قابلة للاقتسام أو الانقسام داخليا ، أو تكون قابلة للاستقطاع والاقتسام خارجيا ، فقد ولدت كاملة ، وواصلت رسالتها الحضارية باكتمالها ، ووحدتها التي حافظت عليها ، دون أن ينفرط عقدها على امتداد ستة آلاف سنة .
المدهش في ذلك ، أن حدودها من أحدث الحدود تخطيطا في المنطقة والعالم ، فلم تخطط مصر حدودها الشرقية إلا في عام 1906 عندما وقعت حادثة طابا الشهيرة ، مع أنها أقدم وأرسخ الحدود في العالم ، بحكم طبيعتها الواضحة ، ولهذا لم يكن تخطيط الحدود ، إلا محاكاة فوق الخرائط ، لطبيعة لا تقبل تغييرا أو تحولا ، ولا تحتاج إلى إثبات أو برهان ، بحكم أنها تشكل اليقين رسوخا وثباتا .
مرت عليها دورات التاريخ كله ، بحروبه وانتصاراته وحملاته وهزائمه ومتغيراته ، وعواصفه ، وظلت رقعتها السياسية ، في وجه كل مد وجذر واستعمار توسعي أو استيطاني ، قديم أو حديث ، ثابتة ، فقد احتمى التاريخ فيها ، عبر الزمن ، بقلعة الجغرافيا ، قدر ما احتمت الجغرافيا في أغلب فصولها ، بالدولة المركزية القوية ، ولذلك سواء اتسع الدور المصري أو تعرض لانكماش جائر ، فاضت مصر حتى وسط آسيا وشمال المتوسط ، وجنوب وشرق إفريقيا ، أو لزمت حدودها ، عاشت في جسد إمبراطورية واسعة ، أو في ثياب مستعمرة ، فقد ظل الوطن السياسي المصري ، راسخا في موقعه ، يشبه السد الجغرافي الهائل ، لا تأكل منه عاديات الزمن ، ولا يضيف إليه النهر من تحته في فيضانه أو جفافه ، فمصر دولة لم تتفكك وحدتها السياسية ، منذ ولادتها الأولى ، عندما احتكرت لنفسها بواكير التاريخ .
ومن المؤكد أن الملمح الأول والأساسي ، بل والجوهري في مصر وحضارتها ، هو الاستمرارية دون توقف و دون انقسام ، أو إضافة أو حذف ، وهو ملمح يكاد أن يكون صفة تعكس تفردا مصريا خالصا ، تنطبق على الكيان السياسي الموحد ، وعلى الوحدة القومية ، التي خرجت في النور بلورة صافية صلبة ، لا تطولها ولا تأخذ منها المتغيرات ، ولا عوامل التعرية ، وعلى سبيل المثال ، فإن ألمانيا نفسها انقسمت على نفسها أكثر من مرة ، وكذلك تركيا التي تعرضت حدودها عدة مرات للمد والجذر ، وكذلك بولندا التي انقسمت عند مطلع القرن الثامن عشر وحده ، ثلاث مرات متتالية .
وقد لا يماثل مصر في ثبات الرقعة السياسية عبر التاريخ ، في الشرق غير الصين ، ولا يقاربها في الغرب سوى فرنسا ، بينما تظل في الوقت نفسه ، الاستثناء والتفرد ، بحكم أنهلا أتمت وحدتها القومية ، منذ ثلاث آلاف وأربعمائة عام قبل الميلاد ، وتبلورت كأول أمة أو شعب ، بالمعنى القومي الحديث ، الذي لم تعرفه أوروبا إلا في القرن الثامن عشر ، ولهذا فإن أسباب عوامل وأسباب قيام الدولة القومية تبدو – أيضا – ذات خصوصية فريدة في الحالة المصرية ، فلقد نشأت الروح الوطنية والبنية القومية في مصر دون أن تنتظر مراحل التحول التاريخية التقليدية في المجتمعات الغربية ، من المشاعية إلى الإقطاع ثم إلى الرأسمالية ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، عندما نشأت الدولة القومية الحديثة في أوروبا على أكتاف الرأسمالية الناشئة ، وخدمة لمصالحها المستجدة .
كانت عوامل التوحد في مصر مبذولة ، في البيئة ، والنهر ، وأساليب الحياة ، والديانات والحرف ، والطقوس ، والتحديات المشتركة ، وفي مقدمتها دون شك ، القوى الخارجية المتربصة ، فقد كانت بحكم بيئتها الفيضية الغنية ، وموقعها الاستراتيجي الحاكم ، الذي يشكل قلب العالم ، وعاصمته الإستراتيجية ، مطمع كل الجراد الصحراوي الباحث عن الخضرة والماء ، كما كانت قبلة كل الذين أرادوا احتكار شرايين النقل البحري حول العالم ، وكل الذين أرادوا أن يفرضوا سطوتهم على المنطقة والعالم .
ولهذا بلورت شخصية وطنية مصرية خارج نظم تقسيم العمل ، وتراكم الثروة ، ولهذا كان الدفاع الوطني الجماعي ، سابقا على كل شئ سواه ، فتاريخ منظومة القوة في مصر ، أمنا داخليا وخارجيا ، وثيق الصلة بتاريخ مصر ، بل يكاد أن يكون عمر الجيش المصري ، الذي كان معنيا بهذين البعدين الأمنيين ، هو ذاته عمر مصر ، فقد ولد من ضلعيها ، عندما ولدت من ضلع الوادي ، وتبلور مع تبلور شخصيتها ، وواصل رسالته ، في قلب رسالتها على امتداد التاريخ .
ولذلك فإنها ، – على حد تعبير د. جمال حمدان – أول دولة بالمعنى السياسي الكامل ، أو على وجه الدقة ، أول دولة وطنية ، وأول منطقة في العالم ، تتحول من تعبير جغرافي ، إلى تعبير سياسي ، وقد ظلت كذلك تعبيرا سياسيا ، ومن البداية إلى النهاية ، ومن منبع التاريخ ، وعبر مجراه العريض والطويل ، وحتى مصبه الحديث .
أم أمم الدنيا ، أو كما يقول رفاعة الطهطاوي ( في مناهج الألباب ) .. ” فقد كانت مصر في أيام الفراعنة ، أم أمم الدنيا ، فما اختصت به مصر من بين الممالك ، أن كل مملكة تستنير برهة ثم تنطفئ ، وتشرق شمس بهجتها ثم تختفي ، فكأنما نورها شئ ما كان ، ولا لمع ضوئها في زمن من الأزمان ، وأما مصر فأغرب شئ من بقاء شمس سعدها ، وارتقاء كوكب مجدها ، أنها بقيت سبعين قرنا حافظة لمرتبتها العليا ، لها اليد البيضاء ، والسلطة المعنوية ، على سائر ممالك الأرض ” .
ولم يكن من الممكن ، أن تتحول من تعبير جغرافي إلى تعبير سياسي ، بغير أن تتوافر في كيانها بأهله وسكانه وجمهوره ، روح وطنية غالبة ، تفيض في ربوعه منذ فجر التاريخ ، فالثابت من الألواح والوثائق المصرية القديمة ، منذ الأسر المبكرة ، من قدماء المصريين ، أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم وطنيين بالأساس ، نشأوا وولدوا ، ونموا في بلادهم ، وهو ما أضفى عليهم ، حسا خالصا بالاعتزاز بالذات ، وإنما هو أيضا ، ما جعلهم يقسمون العالم إلى الأرض السوداء ، وادي النيل ، الذي يشكل الوطن ، والأرض الحمراء ، وهي الصحراء ، التي اعتبروها أرضا أجنبية ، بل لقد تناقل المعلمون والمثقفون من قدماء المصريين تاريخهم القومي وكفاحهم ضد الغزاة الأجانب حيث تضمن لوح مدرسي صغير من القرن السادس عشر قبل الميلاد ، موضوعا تعليميا درس صاحبه خلاله ، مرحلة من مراحل كفاح أجداده ضد الهكسوس ، وهي مرحلة صورت تصميم أحد فراعنة مصر ، على مواصلة الجهاد ، ضد الأعداء المحتلين : ” سوف أصارع العدو ، وأحرر مصر ، وأحطم العامو ” بل أن خير ما وعد به ملاح تائه ، في قصة الملاح الغريق من الأدب المصري القديم ، أن منقذه قال له : ” .. إن أفضل من أي شئ آخر ، أن تصل إلى وطنك ” . وهذا ما تؤكده قصة ( سنوحي ) : أحب القصص إلى قلوب المصريين القدماء ، منذ الأسرة الثانية عشر ، وهي تكاد أن تمثل قصيدة روحية في الابتلاء بسجن الغربة ، وأشواق العودة إلى الوطن.
تحولت مصر – إذن – من تعبير جغرافي إلى تعبير سياسي ، حيث تغذت عملية التحول أساسا ، على مفهوم ناضج ومتقدم للوطنية ، تحول بدوره ، إلى شعور عام يتخلل الجماعة المصرية ، ويحولها بدوره ، من جماعة سكانية ، إلى جماعة وطنية ، قبل غيرها من الأمم بآلاف السنين .
لقد حاول عالم غربي هو ” نيوبري ” أن يلخص حقيقة تواصل الخصوصية الحضارية والمصرية ، عبر التاريخ ، في تعبير رمزي قائلا : ” إن مصر وثيقة من جلد الرق ، كتب الإنجيل فيها فوق هيرودوت ، وفوقها كتب القرآن ، وخلفهم جميعا ، لا زالت الكتابة الهيروغليفية مقروءة جلية ” .
مقدمة التاريخ ، لكنها متوسطة الدنيا ، والجغرافيا ، كما يقول المقريزي ( في الجزء الأول من خططه ) ” مصر متوسطة الدنيا ، فقد سلمت من حر الإقليم الأول والثاني ، ومن برد الإقليم السادس والسابع ، ووقعت في الإقليم الثالث ، فكان هواؤها وضعف حرها ، وخف بردها ، وسلم أهلها من مشاتي الأهواز ، ومن مصايف عمان ، وصواعق تهامة ، ودماميل الجزيرة ، وجرب اليمن ، وطواعين الشام ، وحمى خيبر ” .
لكنها ليست متوسطة الدنيا فقط ، فهي أول الشمال ، وآخر الجنوب ، أو العكس بالعكس ، فهي جسر اللقاء بينهما ، كما هي برزخ التفاعل بين الغرب والشرق ، إنها تضع قدما في البر ، وقدما في البحر ، كما تضع قدما في إفريقيا وقدما في آسيا ، وإن كان رأسها في أوروبا ، عندها أقدم وأطول أنهار الدنيا ، ويطوف حولها ، ويحتضن شواطئها أقدم بحار التاريخ ، وهذا التواصل ، أو الاتصال ، بين النهر والبحر ، قنطرة حقيقية ، تمدد فوقها دورها الحضاري ، أو قل دورها في صنع الحضارة الإنسانية ، إن هذا ما يؤكده جمال حمدان ، : ” لعل من السهل أن نعتبر مصر ملخص تاريخ العالم إلى حد بعيد ، كما أنه ليس من الصعب ، أن نعتبرها ، وإن بدرجة أقل مختصرا لجغرافية العالم ، العالم القديم على الأقل ، شهدت طفولة البشرية ، وأشهرت ولادة أخطر وأهم ثوراتها الأساسية ، وتحولاتها الحضارية ، وقيادتها السياسية في التاريخ العالمي ، ابتداءً من الثورة الزراعية ، والاستئناس والاستقرار إلى الثورة المدنية ، والنقل ، ومن تحول طرق التجارة مع الكشوف الجغرافية ، إلى الثورة الصناعية ، ومن الرسالات التوحيدية ، وبناء الإمبراطورية ، وصراع الإمبراطوريات في الشرق والغرب ، خاصة الشرق القديم ، إلى الغارات الآسيوية ، والحروب الصليبية ، إلى الاستعمار الحديث ، والإمبريالية والحربين العالميتين ” .
ولدت الأمة من أضلاع الوادي ، ومن نبض نيله ، واستمرت لونها من طميه وغرينه ، وقوتها من فيضانه ، وصلابتها من جباله وصخوره ، ورقة طبعها من وسطية موقعها واعتدال مناخه ، أما عبقريتها ، فهي محصلة ذلك كله مضروبة في منجم حكمتها ، بدروس تاريخها الممتد ، وحدها عاشت وضع الإمبراطورية ، كأقدم وأطول إمبراطورية في التاريخ ، ولكنها عاشت وضع المستعمرة ، كأطول مستعمرة تحت سقف ألف عام .
وهكذا لم يقدر لأحد أن يعيش المرحلة المصرية ، صعودا وهبوطا ، تمددا وانكماشا ، قوة متعاظمة بل متورمة ، وضعفا مرزولا مفروضا ، لكن القوة والصعود ، هما قاعدة تاريخها وليس الانكماش والضعف ، فكل تخلف تاريخي في حياتها كان مؤقتا ، إذ سرعان ما تسابق كي تسبق ، وتستيقظ كي تقوم ، وتقوم لتنهض ، وتنهض لتصعد ، وتتبوأ مكانها الصحيح ، وتضبط الموازين ، وتعدل ، وتجدد ، وتفرض السلام المصري ، فليس ثمة دولة في الدنيا ، تقف تحت قبة مركز الكون ، ويتاح أن تناور بموقعها كما يتاح لمصر .
إذا انتقل البندول الاستراتيجي غربا ، فهي جزء أصيل من حوض البحر الأبيض المتوسط ، وإذا انتقل البندول شرقا ، بحكم نموات في الثروة والطاقة ، فهي على خطوط الحركة المباشرة ، ليست قضبانا ، ولكنها قاطرة ، وإذا تمحورت الجهود الدولية نحو إفريقيا ، فهي عاصمتها الطبيعية بالمكانة والمكان ، والعروبة والإسلام ، والنيل ورياح الثورة .
لقد كان قصد جهد محمد علي – مثلا – هو تجديد الإمبراطورية العثمانية من داخلها ، ارتكازا على أمرين : وصل الإسلام بقاعدة العروبة ، أي الإسلام الحضاري في مصر ، ثم تعبئة القدرة المصرية المستندة إلى طاقة التاريخ والجغرافيا ، كقاعدة إقليمية صالحة لنهوض إمبراطورية مترامية الأطراف ، قدر لها أن تسود نصف قارة أوروبا .
ولهذا ورث الإنجليز عن الرومان في علاقاتهم ، مبدأ تحطيم دور العاصمة الحضارية ، فعندما تحولت مصر إلى عاصمة رومانية ، تم تحويلها إلى مزرعة خالصة للقمح والشعير ، كانت تسد حاجة الإمبراطورية من الخبز ، ثلث شهور العام ، أما مع الاحتلال البريطاني ، فقد تم تحوليها إلى مزرعة خالصة للقطن .
وتحطيم دور العاصمة الحضارية يعني تحطيم الدولة المركزية ، كمقدمة لتحطيم أو تعطيل الدور ، وقد نجح الآخرون في تحطيم الدولة المصرية مرات ، ولكن الأمة بقيت ، واستطاعت أن تقيم الدولة القومية في كل مرة .
على امتداد عصر الإمبراطورية المصرية الأولى ، بامتداده الطويل جغرافيا وزمنيا ، عرفت الاستقرار ، في بيئتها الزراعية المستقرة ، فقد كانت وظلت إمبراطورية سلام ، أو قل إمبراطورية بناء حضاري ، بقدر كونها إمبراطورية دفاع عسكري ، فلم تكن كغيرها من الإمبراطوريات التالية ، التي حلت محلها قوة غزو ، أو نهب ، أو عدوان ، كان تأمين ذاتها وحدودها هو الأساس ، في توجهها العسكري ، ولهذا صاغت أول نظرية أمن قومي في التاريخ ، وهي نظرية ربطت مبكرا للغاية ، بين الأمن الخارجي والأمن الداخلي ، في وحدة فريدة ، كما إنها أدركت مبكرا للغاية أيضا ، في أحد أبعاد هذه النظرية ، إن مصر الموحدة بدولتها المركزية القوية ، هي عاصمتها من الانهيار وسبيلها إلى المقاومة والانتصار ، ولهذا انتهى منذ ذلك التاريخ أي تسامح مركزي مع النزعات الانفصالية ، سواء باسم الدين ، أو باسم الإقطاع ، والتي كانت سمة مميزة لفترة الاضمحلال ، أما البعد الثالث في هذه النظرية ، فقد توارثه كل الفراعنة المصريين ، ومارسوه بإبداع ، وهو أن خط الدفاع الطبيعي عن مصر ، يقع شرقي حدودها الشرقية ، فهكذا واصل تحتمس زحفه في مواجهة الآسيويين ، حتى الفرات والأرخبيل اليوناني ، وهكذا قاد أحمس الأول قواته المنتصرة حتى آسيا الصغرى وشمالي العراق .
وإذا كان الاستمرار ملمحا أوليا من ملامحها الرئيسية ، فإن الاستقرار هو غايتها ، فمصر ليست مجتمعا ، نمت طبقاته بعوامل الطفرة ، وإنما جاء تطورها تدريجيا ، وتغيرها تعبيرا عن تراكم أسباب هذا التغير في الواقع ، ولهذا كانت مصر صادمة لأولئك الذين تصوروا في مراحل مختلفة ، أنها قابلة للتفكك ، فليس ثمة بلد تصدق على حضارته صفة الاستمرار ، كما تصدق على مصر ، فعلى امتداد خمسة آلاف سنة لم يتغير الدين إلا مرتين ، وكذلك اللغة ، في حين أن بلدا مثل أسبانيا ، عمره أقل من نصف عمر مصر ، تغير الدين فيه ثماني مرات ، وتغيرت اللغة ست مرات .
ولقد كانت خصوصية مصر أو بعضها في التواصل والاستمرارية ، والاستقرار ، بمفهومه الأوسع أمنا داخليا وخارجيا ، أو أمنا قوميا في الحقيقة ، هي التعبير المباشر عن قوة الشعور الوطني ، وعمق جذور الانتماء ، فلا شئ يخرج عن نطاق المبدأ ، حتى في الاستزراع والاستنبات .
لعل هذا ما يفسر به ( بورجي ) في كتاب ( مصر ) ملمحا هاما من ملامح خصوصية مصر :
” .. إذا كان ثمة شعب ينكر كل نهج اختزالي ، سواء في ممارسة العمل أو في طريقة التفسير ، فتلك هي مصر ، نيل الزمان ، ونيل المكان ، حيث لا يمكن لشئ أن يتحقق إلا بما يزيد عن الكفاية عن طريق ما أحلى ، إن الدماثة الناقدة التي يضفيها هذا الشعب ، على النماذج والضغوط لا تعد في الأساس سوى لجوء إلى ما يكمن فيه ، من خصائص أوراق الشجر في أريافه ، التي تستمر في حيوتها حتى يدركها التحول ، فتتمدد ، غير أنها لا تخرج عن نطاق المبدأ ، الذي تحكمه عملية الاستزراع و الاستنبات ” .
لقد ظلت حقلا ومصنعا ، وقاعدة إستراتيجية حاكمة ، ومصدر إمداد بأدوات القوة والنفوذ ، لكل مستعمر طوال تاريخها كمستعمرة ، ولكنها ظلت – أيضا – في كل محطات التاريخ ، مقبرة للغزاة ، فلم يكن غزوها أو احتلالها ، نزهة بلا ثمن ، وإنما كان تكلفة باهظة ، تقدر ببرك دماء ، وتلال خسائر . لقد جربت ذلك كل إمبراطورية سعت إلى أن تتخذ من الجسور المصرية ، قواعد سيطرة وتمدد واستحواذ على الإقليم ، وكابدت طوال سنوات أو أحقاب أو قرون احتلالها ، نزيفا متصلا ، بحكم استمرار ثورات المصريين ، وسلاسل تمردهم وعصيانهم ومقاومتهم ، حتى زوال الاحتلال .
ولقد كانت المقاومة المصرية العصية ، التي واجهت الاستعمار الحديث ، هي التي فرضت على الحملة الفرنسية ، خروجا منكسرا ممزق الأعلام ، طوي معه نابليون حلم الإمبراطورية ، فلم تنهار إمبراطورية نابليون بنتائج معركة واترلو ، وإنما بنتائج مغامرته في مصر ، وهي التي حملت حملة فريزر وأغرقتها في مياه البحر الأبيض ، وهي التي أوقدت مشاعل الثورة ، ضد الاحتلال البريطاني ، منذ أن صنع لنفسه موضع قدم بالقوة المسلحة الغاشمة ، وحتى خروجه مهزوما بعد أن أنزلته من وضع القوة المسيطرة الأولى في العالم ، إلى وضع القوة التابعة ، بعد أن طالت هزيمته ، كل جوانب وأبعاد الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ، لكنها رغم صلابتها البادية والممتدة ، ومعاركها الزاخرة والمتصلة ، لم تقم في فضائها الواسع ، حوائط ذات طبيعة دينية أو عرقية ، أو لونية ، فلم تعش يوما حالة من التمييز ، فلم تعاشر العنصرية الجائرة ، ولم تجرب الطائفية البغيضة ، ولم تعرف الحروب الدينية ، التي أغرقت وجه قارة أوروبا بالدم ، أليست مملكة التوازن الإنساني ، والاتزان الحضاري ، والمؤاخاة بين القديم والجديد ، والأصيل والوافد ، مرت عليها ، بل وأقامت فيها ، كل بضاعة الدنيا الفكرية ، والعقائدية ، حضارات ونظريات ومشروعات وأديان ومذاهب ، ولكنها أخذت حاجتها المقدرة من كل شئ ، أخذت بالتحديد ، ما ينفعها ، أي ما ينفع ناسها ، أما الزبد فقد ذهب جفاءا عند شواطئها .. جاءها المذهب الشيعي ، مع الدولة الفاطمية التي تلبست جسدها ، لتتحول إلى عاصمة للخلافة الإسلامية ، وحين ذهبت الفاطمية ، ذهب مذهبها معها ، دون أن يخلف أثرا باقيا ، اللهم إلا بعض الطقوس الشعبية التي تدخل في باب استحسان التدين ، الذي هو واحد من أقدم خصائصها ، منذ أن اهتدت إلى عقيدة التوحيد ، قبل أن تشرق أي من الديانات السماوية الثلاث ، ولهذا لا جدال في وصفها بأنها توحيدية قبل التوحيد ، مؤمنة قبل الإيمان ، دخل العالم الآخر ببعثه ونشوره وحسابه ، في صلب اهتمامها ، قبل أن يجئ وحيا إلهيا ، مع الأنبياء والمرسلين.
غير أنها لم تكن مغلقة الفؤاد ، تجاه ما هو جديد ، فقد ظلت متفتحة على الجديد ، شرط أن يمثل حاجة روحية أو مادية لها ، وشرط أن تطبعه بطبعها ، وتعجنه بعطر خصوصيتها ، فحين جاءت المسيحية ، اعتنقتها ولكن بعد أن مصرتها ، وأصبحت القبطية رسالتها ، حيث لعبت من أجلها أكثر الأدوار أثرا في انتشارها في العالم ، وحين جاء العرب المسلمون ، رأت فيهم المخلص من أكثر صنوف الاستعمار اضطهادا ، واستغلالا ، حد أنه يبدو استعمارا اقتصاديا خالصا ، وهو الاستعمار البيزنطي ، ثم رأت في الإسلام حاجتها الروحية الطبيعية ، فدخلت فيه ، بتغير لسانها بعد أكثر من قرنين ، وبتغير قلبها قبل ذلك بقليل ، وحتى في ظل الاحتلال الأجنبي الكلاسيكي ، بكافة صوره وأشكاله ، فلم تكن الحالة في مصر هي حالة احتلال خالصة ، ودائمة ، بقدر ما كانت حالة تجديد وطني مستمرة ، وبالمفارقة فإن مصر المحكومة عسكريا تحت ظل ثلاث إمبراطوريات متتالية هي : الإغريقية والرومانية والبيزنطية ، كان دورها وتأثيرها ، يصل إلى ما وراء تخوم الإقليم الواسعة .
فقد كان الأقوى عسكريا وهو المستعمر ،غالبا هو الأضعف حضاريا ، بينما كان الأضعف عسكريا وهو المحتل ، هو الأقوى حضاريا ، وهو ما سمح لها أن تلعب حتى تحت حراب الاحتلال ، دورا كبيرا في الأوضاع الإقليمية والسياسة العالمية .
في البدء كانت مصر حقا ، مصر المكان والمكانة ، السائدة لا المتنحية ، الثابتة لا المتغيرة ، الراسخة لا المهتزة ، نيل الزمان ، ونيل المكان ، أو التاريخ ، ومتوسطة الدنيا ، حضارة الاستقرار ، واستقرار الحضارة ، إمبراطورية البناء والدفاع والاستمرار والخصوصية ، صلابة بغير انغلاق ، وانفتاح بغير انفراط ، وإيمان بغير تطرف ، ودور حضاري بغير انقطاع ، وحكمة دون استعلاء ، وقيادة دون وصاية ، وتجديد دون تفريط ، وإبداع دون تقليد ، رسالتها التوازن والعدل والسلام ، في الأمس واليوم والغد …