حيّان نيّوف | كاتب وباحث سوري
لم تكن تصريحات “وليم بيرنز” مدير وكالة الإستخبارات الأمريكية CIA لشبكة CBC الأمريكية في السادس و العشرين من شباط/فبراير الماضي حول الملف النووي الإيراني حديثاً عابراً أو تكراراً للديماغوجيا الإعلامية الأمريكية المستهلكة ..
“بيرنز” كان حريصاً على اختيار كلماته وعباراته بدقة إلى الحدّ الذي يمكن القول فيه أن كلامه شكّل اعترافاً ضمنياً أمريكيّاً بإيران نووية قادرة على صنع قنبلتها النووية الأولى في اللحظة التي تقرر فيها ذلك ، بل يمكن القول أنّ كلامه أظهر استسلاماً للقدرات الإيرانية عندما تناول قدرات إيران الصاروخية و إمكانية امتلاكها للقاذفات الإستراتيجية الروسية “سو ٣٥” المقرر وصولها في الربيع القادم ، كحوامل عسكرية لا غنى عنها للقنبلة الذرية الإيرانية في حال جهوزها ( إن إيران “تقدمت جداً لدرجة أن الأمر لن يستغرق سوى أسابيع قبل أن تتمكن من تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 في المئة، إذا أرادت تجاوز الحد الحالي “) … عبارة قالها بيرنز تسليماً واعترافاً بفشلهم في وقف برنامج ايران النووي ..
تصريحات بيرنز جاءت ايضاً بعد أسبوع واحد على ما قالته مصادر غربية من أن مفتشي الوكالة حصلوا على عينات تثبت بأن إيران خصّبت جزيئات يورانيوم بنسبة قاربت 84% وهي نسبة تفوق الحد الذي تخصبه إيران بشكل رسمي ، وتنخفض قليلاً عن النسبة اللازمة لصناعة قنبلة ذرية 90% ..
كما أنّ تصريحات “بيرنز” جاءت بعد أيام من تصريحات قائد القوات الجوفضائية الإيرانية “العميد حاجي زادة” التي أكد فيها متلاك إيران لصواريخ فرط صوتية وبمديات تصل إلى 2000 كم ، وبأن تلك التكنولوجيا العسكرية ليست بجديدة و تم تطويرها عبر صناعات أجيالية جديدة لا يمكن معها مواجهة تلك الصواريخ لعشرات السنوات القادمة ..
كل ذلك يأتي في ضوء التسارع الكبير للتعاون العسكري الإستراتيجي بين إيران و روسيا ، سواء على مستوى التكنولوجيا أو لجهة صفقة الطائرات الحربية “سو ٣٥” القاذفة الإستراتيجية القادرة على حمل قنابل نووية ، في خطوة عكست تخوفاً و رهباً غربيا من امتلاك إيران لثالوث القوة النووي الضارب ( القنبلة الذرية ، الصواريخ الفرط صوتية القادرة على حمل رؤوس نووية ، القاذفات الاستراتيجية القادرة على حمل قنابل نووية ) ، ومايعنيه ذلك في حال حدوثه او تحققه من تثبيت إيران لنفسها كقوة عظمى ليس على المستوى الإقليمي فحسب ، بل وعلى المستوى الدولي في ظل عالم جديد يجري رسم خرائطه ..
لا شكّ أن العقل الإستراتيجي الإيراني الذي وازن ما بين ممارسة الدبلوماسية و التطوير العسكري كان مذهلاً للغاية ، و أخذ بالحسبان منذ البداية بأن امتلاك القنبلة الذرية من دون امتلاك الحوامل العسكرية والتكنولوجية لها والقادرة على تهديد أعداء إيران مع ضمان عدم قدرتهم المؤكدة على مواجهة ذلك عسكرياً لن يكون ذو قيمة استراتيجية ، بل إنه قد يشكل سبباً لنجاح الضغوط على إيران بكل الإتجاهات ، هذا إن لم يكن وبالاً عليها وحجة لإقصائها نهائيا..
انطلاقاً من ذلك يمكننا فهم الإستراتيجيات الإيرانية في المنطقة والعالم ، ويمكننا ترجمة التحالفات الإقليمية والدولية لإيران تباعاً وبحسب ما تقتضيه كل مرحلة زمنية ، ولا بد من الإعتراف والتقدير للحنكة الدبلوماسية الإيرانية في مجال التفاوض والتنقل بين الملفات وفق ما تقتضيه كل مرحلة ..
آخر النجاحات الدبلوماسية الإيرانية ظهر جليّاً خلال زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية “رافائيل غروسي” منذ يومين لإيران ، هذه الزيارة يمكن وصفها بالزيارة الناجحة وحققت اختراقاً مهما على صعيد العلاقة بين الجانبين و تنظيم عمليات التفتيش والمراقبة في إطار اتفاق الضمانات الشاملة .. الجانب الأهم في الزيارة ونتائجها هو انعكاساتها السياسية لجهة تقديم ايران للجانب الفني في ظل العرقلة الغربية للجانب السياسي للمفاوضات متعددة الإطراف ، وفي ظل الضغوط التي تحاول الولايات المتحدة ممارستها على ايران مستغلة برنامجها النووي و الترويج المزعوم لتزويدها روسيا بالمسيرات ، وخاصة انعكاسات ذلك على علاقة ايران بالجوار ..
وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة واسرائيل ، تظنان انهما تمارسان لعبة الإعلام و السياسة و الدبلوماسية والتهديد والضغط بكل أشكاله ، خططت إيران بثبات وحكمة وعبقرية وزاوجت ما بين الدبلوماسية السياسية و تطوير التكنولوجيا العسكرية والنووية ، وصولاً إلى اللحظة الحرجة التي وضعت فيها أعداءها والعالم أجمع أمام خيار الإعتراف والقبول بها كقوة عظمى ..
لم تترك الدبلوماسية الإيرانية الباب موصداً أمام خصومها ، ويشهد على ذلك الحلحلة السياسية التي يمكن وصفها “بالهدنة الإقليمية أو حتى بالهدنة الدولية” في كل من اليمن و كاريش و العراق و سوريا و غيرها ، نظرا لتشعبات ارتباط تلك الملفات بالعالم أجمع سياسيا واقتصادياً وأمنيا ، وخاصة ما يتعلق بخطوط ومصادر الطاقة و سلاسل التوريد العالمية ..
لم يفت مدير ال “سي آي إيه” في نهاية حديثه أن يواسي نفسه و بلاده بالقول : ( إن الولايات المتحدة لا تعتقد أن المرشد الأعلى السيد علي خامنئي قرر “استئناف برنامج التسلح الذي نقدّر أنه عُلّق أو أوقف نهاية 2003” ) في تعبير يعكس مرة اخرى العجز الامريكي عن مواجهة تلك اللحظة الحرجة التي وضعتهم إيران أمامها ..