حيان نيوف | كاتب وباحث سوري
الطرح الذي قدّمه مرشح المعارضة التركية “كيلتجدار أوغلو” لإعادة العلاقات مع الحكومة السورية وإعادة اللاجئين خلال حملته الانتخابية لم يكن على الأغلب طرحًا ذاتيًا خالصًا، ومن غير المستبعد أن يكون “كيلتجدار أوغلو” الذي تمّ وصفه بمرشح الناتو واوروبا قد قدّم هذا الطرح بالتنسيق مع الغرب الأوروبي الأمريكي الذي يدعمه بالانتخابات، أو على الاقل فإن الغرب لم يصدر عنه اعتراض في الإعلام على طروحات أوغلو.
إذا صحّ هذا الاحتمال، فإن هدف الغرب يتمثل بسحب البساط من تحت منصة آستانة وإفشالها عبر محاولة الزجّ بطروحات جديدة يكون له فيها دور الملك بالتسوية التي يريدها على قياسه وبما يناسب مصالحه وعبر وكيله التركي صاحب الدور الفاعل والمؤثر في الملف السوري سواء لجهة الحل أو التصعيد.
ولم يعد خافيًا ما تريده الولايات المتحدة والمصالح التي تسعى لتحقيقها كشروط لقبول السير بتسوية الملف السوري. ويمكن تلخيص ذلك تحت بنود عدة:
• ملف شرق الفرات ودور حلفائه في “قسد”.
• ملف الإرهابيين في إدلب وقربهم من حدود أوروبا.
• ملف الوجود الإيراني في سورية.
• ملف المقايضة التي يحاول فرضها بين سورية وأوكرانيا على روسيا.
• ملف أمن الكيان الصهيوني.
يعتقد الأميركي أن تلك النقاط وغيرها يصعب تسويقها بالكامل من خلال شخص مثل اردوغان، بل إنه يرى أن أردوغان ذهب بعيدًا في التفرد أو فيما يخص العلاقة مع روسيا وإيران، وحتى فيما يتعلق بموقفه المتشدد من الأكراد “حلفاء الولايات المتحدة”، ولذلك فإن الأميركي يرى أن التسوية السورية وفق صيغها الحالية وخاصة عبر منصة آستانة التي تشكل تركيا في ظل أردوغان أحد أضلاعها تكاد تحرمه من تحقيق مصالحه.
وعليه فإن الأميركي لم يتوان عن التلويح بعصا تشديد العقوبات على سورية والتي طرحها للتداول عبر الكونغرس قبيل انطلاق الانتخابات التركية، وفي ذات الوقت طرح جزرة الحل التي تناسبه ومصالحه عبر إعلان “كليجدار اوغلو” استعداده للتسوية مع دمشق.
فالأميركي يدرك جيدًا عمق التأثير السوري في الانتخابات التركية سواء من زاوية انعكاسات تطبيع العلاقات بين البلدين أو من زاوية قضية اللاجئين أو من زاوية الموقف من الأكراد، وهو أي الأميركي يريد من دمشق دعمًا لأوغلو على حساب اردوغان، وربما يرى أن دمشق إذا ما قررت حرمان اردوغان من فرصة اللقاءات الرباعية وفق صيغة آستانة، وقدمت هذه الفرصة لأوغلو يشكل أو بآخر فإن ذلك سيساهم بتدعيم موقف كليجدار أوغلو الانتخابي.
من هذا المنطلق فإن الأميركي عاد إلى طرح ورقة العقوبات ضد سورية بشكل مفاجئ قبيل الانتخابات التركية وعمل على تفعيل المشروع في الكونغرس بعد الجولة الأولى بهدف الضغط عليها للقبول بخيار دعم أوغلو على حساب أردوغان.
لا شك أن الأميركي لا يؤتمن، بل إن مصالحه التي ذكرناها لا تتعارض كليًا مع المصالح السورية والمبادئ السورية فحسب، بل يمكن القول إن الطرح الأميركي هو طرح ساذج إلى الحد الذي لا يستوجب التفكير به، ذلك لأنه يعلم يقينًا أن تلك الطروحات أو بعضها يمس بالسيادة السورية والثوابت السورية، إلّا إن كان الأميركي ينظر إليها كنافذة أولية للتفاوض مع دمشق خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار ما تسرب من معلومات غير مؤكدة عن مفاوضات بين الجانبين برعاية عمانية، وحتى في هذه الحالة فإن الأميركي يدرك جيدًا أن سورية لن تخرج عن التنسيق مع حلفائها في طهران وموسكو.
واللافت في هذا الأمر كما قلنا هو إحالة مشروع قانون تشديد العقوبات على سورية الى الكونغرس، وقد جرى ذلك بعد صدور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التركية، وإقراره ضمن مؤسسات الكونغرس والبيت الأبيض يستلزم وقتًا يمتد إلى ما بعد صدور نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التركية إن جرى السير به. الأميركي بات يخشى فعليًا حسم جولة الإعادة لصالح اردوغان وما يعنيه ذلك من تضاؤل فرصه في تحقيق مكاسبه ومصالحه في سورية التي باتت التسوية فيها خيارًا اقليميًا ودوليًا لا يمكنه ايقافه، كما أنه يعجز عن التصعيد لأسباب عديدة متعلقة بالإقليم ككل وبسلاسل التوريد التي تهمه وبقدرة محور المقاومة على خلط الأوراق في الإقليم بوجهه إن حاول عرقلة التسوية بالسياسة أو التصعيد الميداني.
إذا الأميركي يريد القول إن الحل الذي يتعارض مع ما نريده، وغير القادرين على ايقافه، يعني هزيمة لنا، وعليه فإن سياسة العقوبات هي خيارنا الدائم على المدى الطويل كما هو حال ايران وروسيا وغيرها من الدول والتي تحوّلت إلى واحدة من الإستراتيجيات العامة للإدارات الأمريكية المتعاقبة.
في مقابل الانتخابات التركية فإن الأميركي كان ينظر بالعين الثانية إلى الملف السوري من زاوية أخرى متعلقة بعودة العلاقات السورية – العربية، ويدرك جيدًا أن قطار التسوية الإقليمية ككل تتقاطع طرقه ومحاوره في دمشق ولا يمكن له السير من دون عجلة الانفتاح العربي على سورية، وهذا الجانب الذي انطلق بشكل متسارع منذ ما يقارب الشهرين ومرّ بمحطات عدة كان من بينها لقائي جدة وعمّان قبل أن يتوّج بالقمة العربية التي انعقدت في جدّة السعودية بحضور الرئيس السوري بشار الأسد بعد أيام قليلة من الجولة الأولى للانتخابات التركية.
القمة سبقتها بعشرة أيام زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي “جاك سوليفان” للسعودية، سوليفان لم يفوت الفرصة لوضع العصي في عجلة الانفتاح العربي على دمشق حتى لو كانت بلاده على علم مسبق بتوجه حلفائها العرب نحو سورية، لكن الأميركي أراد أن يمارس السياسة ذاتها القائمة على العرقلة والمقايضة وبما يحقق مصالحه، ومن غير المقبول لديه أن تكون القمة العربية مناسبة لإعلان انتصار سورية وبالتالي إعلان انتصار محور المقاومة وحليفته روسيا.
من هذا المنطلق فإنه يمكن القول إن توقيت طرح ملف العقوبات على سورية بالإضافة لكونه جاء متزامنا مع الانتخابات التركية، فقد جاء متزامنًا أيضًا مع القمة العربية في جدة في محاولة لتفريغ الانتصار السوري من مضمونه، ولم يكتفِ الأمريكي بذلك بل إنه فرض كما هو واضح على السعودية دعوة حليف واشنطن وأداتها الرئيسية في المواجهة مع روسيا وأقصد الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي لحضور القمة، هذا الحضور الذي جرى بطريقة مسرحية وهزلية يمكن وصفه بالمراهقة أو المشاغبة السياسية الأمريكية التي فرضت على الرياض لحرمان سورية وحلفائها من نشوة الانتصار ولو إعلاميًا.
وبالعودة إلى ملف الانتخابات التركية فربما يكون من الخطأ التكهّن بنتائج الانتخابات التركية في جولتها الثانية استنادًا إلى نتائج الجولة الأولى على الرغم من أهمية المؤشرات التي أفرزتها تلك الجولة، ذلك أن الأميركي وعلى الرغم من صدمته بنتائج حليفه أوغلو، قد يفاجئ الجميع بتحرك أو إجراء “سري أو علني” لصالح أوغلو في الوقت المتبقي للجولة الثانية. وبالمقابل فهو يعتقد أن بإمكانه فرملة الاندفاعة العربية وخاصة السعودية نحو سورية متى شاء.
من أجل خدمة هذا التكتيك السياسي أشهر الأميركي سلاح العقوبات من جديد، ولم يكتف بذلك، بل حمل معه الملف السوري إلى قمة مجموعة الدول السبع في التي تعقد في اليابان في ظروف تشتد فيها المواجهة بين الغرب الليبرالي الاطلسي والشرق ممثلًا بروسيا والصين، وهذه المرة تحت عنوان “إعادة إحياء ملف تمثيلية الأسلحة الكيميائية والدعوة إلى إيقاف التطبيع مع سورية قبل تحقيق تقدم حقيقي نحو حل سياسي فيها”.
الأميركي خصوصًا والغرب الليبرالي الأطلسي عمومًا يدركان الأهمية الجيوسياسية لسورية وتأثيرها وتشابكاتها الإقليمية والدولية وخاصة مع تركيا واوكرانيا شمالًا ومع العمق العربي جنوبًا، كيف لا يكون ذلك والجغرافيا السورية تقع في أقصى الشرق الآسيوية وبوابته على المتوسط، في ذات الوقت الذي تقع فيه على خط فالق المواجهة بين الشرق والغرب والممتد من الشمال إلى الجنوب.؟
سورية التي تدرك أكثر من غيرها هذه الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية لموقعها وموقفها، كانت قيادتها وما زالت بحجم هذه الأهمية، وهو ما ترجمه الحضور الذهبي لسورية في القمة العربية في جدة، والذي ترجمه خطاب الرئيس الأسد الذي صوّب سهام كلماته في قلب المحاور التي يحاول الأميركي اللعب والنفاذ من خلالها، فهل يقرأ الأميركي الردّ السوري جيدًا أم أنه سيستمرّ بالمقامرة؟
المصدر | موقع العهد