حسن لافي | كاتب فلسطيني مختص بالشؤون الإسرائيلية
تفاجأت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بنمط جديد من العمل الفدائي، اندلعت شراراته مع عملية الطعن التي نفذها الشهيد مهند الحلبي عام 2015م في الضفة الغربية، والتي أسست مرحلة أطلقت عليها الأجهزة الأمنية لدى الاحتلال الإسرائيلي موجة العمليات الفدائية الفردية، والتي كانت أهم سماتها تتمثل بما يلي:
أولاً، منفذ العملية فرد لا يقف وراءه عمل عسكري منظّم، حتى لو انتمى المنفذ إلى تنظيم أو حركة سياسية. فقرار تنفيذ العملية يبقى قراراً شخصياً يتخذه منفذ العملية، بصورة فردية.
ثانياً، عدم استخدام السلاح الناري الأوتوماتيكي، بمعنى اعتماد منفذي العمليات على ما يتوافر لهم من أسلحة في متناول أيدي الجميع، مثل سكاكين المطبخ والسيارات. لذلك، تركَّز العمل الفدائي الفردي على عمليات الطعن أو الدهس.
وضعت “إسرائيل” وأجهزتها الأمنية، عند تعاملها مع موجة العمليات الفدائية الفردية، هدفاً مركزياً يتمثل بعدم تحوّل موجة العمليات الفدائية الفردية إلى انتفاضة شعبية في كل أرجاء الضفة الغربية، بحيث تقلب الطاولة على المساعي الإسرائيلية الهادفة إلى إخماد المقاومة هناك، والعمل على كيّ الوعي الشعبي تجاه أي فعل مقاوم ضد جيش احتلالها وقطعان مستوطنيها. ومن أجل تحقيق هذا الهدف المركزي، استخدمت الأجهزة الأمنية عدداً من الأدوات السياسية والأمنية في آن واحد، مثل:
1. تعزيز التنسيق الأمني مع أجهزة السلطة الفلسطينية، من خلال اللعب على وتر الانقسام الفلسطيني، وإقناع السلطة الفلسطينية بأن المحافظة على استقرار الأمن الإسرائيلي في الضفة، كما أنها تخدم “إسرائيل”، فهي تخدم السلطة الفلسطينية. وبالتالي، فإن مواجهة تلك العمليات ومنع تحوّلها إلى حالة شعبية هما مصلحة مشتركة لكلا الطرفين. وفي هذا السياق، تم التعاون في ضرب بنى الفصائل الفلسطينية المقاومة في الضفة الغربية، بما فيها كتائب شهداء الأقصى، التابعة لحركة “فتح”.
2. استحداث أدوات أمنية إسرائيلية مبتكرة، تعتمد على متابعة الشبكة العنكبوتية، وتفحص سلوك الشباب الفلسطيني في مواقع السوشيال ميديا المتعددة، كنوع من وسائل الإنذار المبكّر لمعرفة الفرد صاحب التوجهات الفدائية، واعتقاله قبل التنفيذ.
3. ملاحقة تجّار السلاح والعمل على مصادرة الأسلحة في مدن الضفة ومخيماتها، والسعي الدؤوب لمنع تصنيعه، الأمر الذي تجلى في حملة أمنية إسرائيلية كبرى عام 2016م، أُطلق عليها حملة “اقتلاع” ظاهرة تصنيع الأسلحة المحلية في الورش والمخارط المحلية، وتركزت بصورة رئيسة في الخليل وبيت لحم ونابلس، إلى درجة أن امتلاك أي فلسطيني ورشة حدادة يضعه في دائرة الشبهات الأمنية الإسرائيلية، وذلك بعد استخدام بعض منفذي العمليات الفدائية الفردية سلاحاً نارياً محليَّ الصنع (الكارلو).
نجحت “إسرائيل”، بعد ما يقارب عامين، في الحد من موجة العمليات الفدائية الفردية، وبالتأكيد في عدم تطورها إلى حالة من الانتفاضة الشعبية. لكن، مع بداية عام 2021م، بدأت تطفو على السطح الأمني الإسرائيلي معضلة شمالي الضفة الغربية، وخصوصاً مدينة جنين ومخيمها. وازدادت الأزمة الأمنية الإسرائيلية مع معركة “سيف القدس”، وما نتج منها من ثقة عالية لدى الكل الفلسطيني، الذي اقتنع بقدرته على تجاوز الانقسام الفلسطيني من خلال مواجهة الاحتلال، التي تشكل الإطار الجامع للكل الفلسطيني، باختلاف أطيافه، بعيداً عن فكرة تقاسم السلطة تحت الاحتلال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ربطت معركة “سيف القدس” الكل الفلسطيني في جبهة واحدة ومصير واحد، بعيداً عن استراتيجية عزل الجبهات الفلسطينية، التي حاولت “إسرائيل” تكريسها على مدى تاريخها، وخصوصاً بعد فترة الانقسام، فباتت تشعر الضفة الغربية بأنها ليست وحدها، وأن غزة لن تكون في معزل عن معركتها مع الاستيطان والضم الصهيونيَّين.
في ظل هذه الأجواء، برزت جنين ومخيمها نواةً للبيئة الحاضنة للتحولات الأمنية والسياسية والعسكرية في الضفة الغربية، وأبرزها تشكيل كتيبة جنين التابعة لـ”سرايا القدس”، الجناح العسكري لحركة “الجهاد الإسلامي”، كأول حالة عسكرية علنية منظَّمة في الضفة الغربية، وكتيبة حزام النار التابعة لكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة “فتح”، الأمر الذي ساهم في ميلاد حالة مقاومة جديدة غير معتادة على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية منذ انتهاء انتفاضة الأقصى عام 2005م. وفي هذا السياق، يُطرح سؤالٌ دائماً هو: ما هي الأسباب في تشكُّل هذه البيئة المقاومة في جنين، ومخيمها بالذات؟
الإجابة تنطلق من خصوصية البيئة الاجتماعية داخل مخيم جنين، الذي يُعَدّ نموذجاً حياً عن الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي إذا أُضيف إليها إرث المخيم وتاريخه النِّضاليان، نجد أن الجينات المقاوِمة متجذّرة في وجدان المجتمع هناك. وبالتالي، بات محصَّناً من كل أساليب كيّ الوعي الإسرائيلية، الأمر الذي أنتج حاضنة شعبية كبيرة للمقاومة، يكفي لمعرفة مقدارها الاستماع إلى والد الشهيد رعد خازم في أثناء تأبين ابنه منفذ عملية “تل أبيب”. أضف إلى ذلك ضعف التنسيق الأمني من جانب أجهزة السلطة في جنين، لأنه بات فعلاً محرَّماً وطنياً حتى داخل حركة “فتح”، التي باتت تشهد حالة تمرد داخل أقاليم الضفة الغربية في سياسة التنسيق الأمني، ناهيك بأن بروز كتيبة جنين، كإطار عسكري منظم علني، ساهم في توفير السلاح، والتدريب العسكري، الأمر الذي أدى إلى توفير البيئة المقاومة اللازمة لتطوير تكتيكات العمليات الفدائية الفردية العسكرية، بالإضافة إلى أن كتيبة جنين استطاعت توفير حماية عسكرية للمخيم من اقتحامات جيش الاحتلال، إلى حد كبير، الأمر الذي حدّ عمليات الاعتقال الإسرائيلية، وساهم في الوقت ذاته في تنامي ظاهرة المطارَد الفلسطيني الذي يحمل السلاح ضد الاحتلال، بحيث تحولت جنين وكتيبتها، في المحصلة، إلى عاصمة المقاومة، الأمر الذي يفسر لماذا خرج منفّذا عمليتي بني براك وشارع ديزنغوف من جنين.
أدركت “إسرائيل” خطورة التحولات التي أنتجتها جنين وكتيبتها في الحالة الأمنية في الضفة الغربية، فأطلقت عملية عسكرية عنوانها “كاسر الأمواج”، تهدف إلى القضاء على حالة المقاومة الوليدة في جنين، من خلال استنزافها المستمر، من دون الحاجة إلى الذهاب إلى عملية عسكرية كبرى على غرار عملية “السور الواقي” عام 2002م، خوفاً من اتساع الظاهرة إلى سائر مدن الضفة الغربية، الأمر الذي صرّح به ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق، وكبير باحثي مركز السياسة والاستراتيجية، ميخال ميلتشين، بالقول إن “إسرائيل تحاول تركيز جهودها الأمنية على جنين، من أجل عدم انتقال عدوى المقاومة والفوضى إلى سائر المناطق في الضفة الغربية، كما هي الحال في شمالي الضفة الغربية. لكن بات من الواضح أن مردود عملية “كاسر الأمواج” الأمنية أتى عكسياً على “دولة” الاحتلال. فهي، من جهة، لم تستطع إخماد حالة المقاومة في جنين، ومن جهة أخرى، ساهمت غطرسة فائض القوة الإسرائيلية ضد الفلسطيني إلى انتشار الحالة إلى سائر مدن الضفة الغربية وقراها، الأمر الذي أشعل الضفة الغربية. فحالة المواجهة الشعبية في نابلس وبيت لحم و سلواد، وغيرها من المدن والقرى في الضفة الغربية، والتي باتت شبه يومية، تؤكد أن حالة المقاومة، التي وُلِدت من أحضان الحالة الوحدوية المقاومة في جنين ومخيمها، بدأت تتحول إلى حالة انتفاضة شعبية في مواجهة الاحتلال في الضفة الغربية برمتها.