كتب حسني محلي | اقتصاد إردوغان.. شبح الدولار يخيّم من جديد
حسني محلي | باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي
بعد خمسة أشهر من “نجاح” إردوغان “الباهر” في السيطرة على الدولار، وهو ما تغنّى به أتباعه وأنصاره في الداخل والخارج، عادت “حليمة إلى عادتها القديمة” في الحديث عن “القوى الداخلية والخارجية” وعلاقتها بالأزمة. ويقول إردوغان إنها “تسعى لتدمير الاقتصاد التركي، عبر التلاعب بسعر الدولار والعملات الأجنبية”.
فبعيداً عن اهتمامات الإعلام الخارجي، والعربي منه بصورة خاصة، سجّل سعر الدولار ارتفاعاً ملحوظاً في تركيا خلال الأسبوعين الماضيين، بنسبة تسعة في المئة، ليصل إلى 15.90 ليرة، والبعض يتوقع أن يصل إلى 17 ليرة في مقابل الدولار، قبل نهاية الشهر الجاري. ودفع ذلك المصرف المركزي إلى مطالبة البنوك الخاصة والحكومية بإجراء معاملاتها الخاصة بالعملات الأجنبية بين الساعتين العاشرة صباحاً والرابعة بعد الظهر، وذلك لمواجهة أيّ تطورات مفاجئة في عمليات البيع والشراء، وهو ما كان متاحاً دائماً، ليلاً ونهاراً.
المعارضة التركية تحمّل إردوغان مسؤولية الكارثة المالية التي دمّرت، ليس فقط الاقتصاد التركي، بل كل المعطيات السياسية والاجتماعية، وحتى الإنسانية، بعد أن وصلت نسبة البطالة إلى ارقام قياسية (نحو 19%)، توازياً مع أرقام قياسية أكثر على مستوى أسعار الخدمات والمنتوجات والمواد الاستهلاكية. و”نجح” إردوغان، أواسط كانون الأول/ ديسمبر الماضي، في خفض قيمة الدولار من 18 ليرة إلى 10.40 ليرات، وذلك بفضل نظام مصرفي غريب، أقنع من خلاله بعض المواطنين بتحويل دولاراتهم إلى الليرة التركية، وايداعها في المصارف بفائدة سنوية تصل إلى 16%، مع ضمانات التعويض في حال ارتفاع قيمة الدولار، خلال فترة الأيداع. وعَدّت المعارضة هذا النظام المالي كارثة خطيرة في اتجاهين: أوّلاً لأن المصرف المركزي استمر في ضخ مليارات الدولارات في الأسواق لمنع ارتفاع قيمة الدولار، وثانياً لأن الخزانة تحمّلت أعباء فوائد الإيداعات، وغطّتها بالضرائب التي فرضتها الحكومة على المواطنين. وأدى ذلك، في كِلتا الحالتين، إلى إفلاس المصرف المركزي، الذي تراجعت احتياطياته من العملات الصعبة إلى ناقص 67 مليار دولار (يغطّيها بالاقتراض الخارجي، بفوائد مرتفعة زادت على 9% للدولار). وقدّرت أوساط المعارضة مديونية الخزانة العامة بأكثر من ثلاثة تريليونات ليرة تركية في مقابل ديون خارجية زادت على 467 مليار دولار، بينها نحو 160 مليار سيتم تسديدها حتى نهاية العام الجاري، وهو ما يعني مزيداً من الكوارث المالية في حال فشل أنقرة في الحصول على قروض عاجلة من الرياض والدوحة وأبو ظبي، عبر نظام المقايضة، SWAP؛ أي بيع الليرة التركية بسعر متفَق عليه مع الطرف الآخر. يأتي ذلك بعد أن فقدت أنقرة أملها من العواصم والمؤسسات المالية في الغرب، بسبب تبعات الأزمة الأوكرانية على اقتصادات الدول الغربية، وعدم ثقة هذه المؤسسات بالنظام في تركيا، سياسياً ومالياً وقضائياً، ولاسيما بعد أن سيطر إردوغان على كل مؤسسات الدولة وأجهزتها ومرافقها، والتي بات يقرّر مصيرها في توقيع واحد، كما هي الحال بالنسبة إلى قراراته بشأن تغيير محافظي المصرف المركزي ووزراء المالية، بمن فيهم صهره برات ألبيراق، كما يشاء، ناسياً أن كل ما فعلوه كان بناءً على تعليمات مباشرة منه.
وكانت النتيجة أن وصلت نسبة التضخم السنوي، وفق حسابات معهد الإحصاء الحكومي، إلى 70%، وهو ما تشكك فيه المعارضة، التي قدّرت أوساطها الاقتصادية هذه النسبة بـ180%. ويرى المواطن بدوره أن هذه النسبة لا تقل عن 300%. وانعكست على معدّل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخدمات والغاز والبنزين وغيرها. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر ليتر البنزين من 7.15 ليرات في الـ18 من أيار/مايو من العام الماضي إلى 22.40 ليرة في الـ17 من أيار/مايو من العام الحالي، وهي حال الكهرباء والغاز وجميع المواد الاستهلاكية الرئيسة، بما فيها المواد الغذائية الأساسية.
وترى أوساط المعارضة أن الفساد المتفشّي في جميع معاملات الدولة وإجراءاتها هو السبب الرئيس في كل الأزمات المالية. وقدّرت حجم هذا الفساد بمئات المليارات من الدولارات، بعد أن باع إردوغان ما قيمته 70 مليار دولار من مؤسسات القطاع العام وشركاته ومصانعه لشركات أجنبية وتركية، مُلّاكها مقرّبون إليه. وكشف المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري، فائق أوزتراك، ملفات فساد خطيرة في جميع المشاريع التي نفّذتها الشركات المقرّبة إلى إردوغان، وقال: “لو لم يكن هناك فساد وسرقات لكان عدد الجسور والأنفاق والطُّرُق السريعة، التي نفّذتها هذه الشركات، 24 بدلاً من ثمانية مشاريع، ومنها جسران معلَّقان وأربعة طُرُق سريعة ونفق”. ويتَّسق ذلك مع حديث عن بناء مستشفيات حكومية، تعهّدت وزارة الصحة للشركات التي نفذتها وجود عدد محدَّد من المرضى وإلّا فإن الدولة ستعوّضها. وهذه هي حال الجسور والطُّرُق السريعة. فعلى سبيل المثال، تعهّدت الدولة مرورَ 45 ألف سيارة يومياً من الجسر المعلَّق الجديد عند مضيق الدردنيل، إلّا أن العدد لا يتجاوز الآن 6-7 آلاف سيارة يومياً.
ويبقى الرهان على مدى نجاح المعارضة في إقناع الناخب التركي بفشل مجمل سياسات إردوغان الاقتصادية والمالية، والتي أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس والدمار، وانعكاس ذلك على مجمل المعطيات الاجتماعية والنفسية، بل حتى الأخلاقية، التي لم يعد لها أي معنىً بالنسبة إلى المواطنين الأتراك. والغريب في الموضوع أن نحو 30% منهم ما زالوا يدعمون إردوغان، ويجب الاعتراف بنجاحه في دغدغة مشاعرهم القومية والدينية، تارة ضد أعداء الداخل، وتارة أخرى ضدّ أعداء الخارج، من دون أن يخطر في بال هؤلاء أن إردوغان توسّل إلى هؤلاء الأعداء من أجل مصالحتهم بعد أن قال ما قاله عنهم، كما هي الحال بالنسبة إلى حكّام الإمارات والسعودية و”إسرائيل” ومصر.
وترى الأوساط الأكاديمية أن ذلك يمثّل ظاهرة اجتماعية يجب دراستها، بعد أن بيّنت الدراسات أن عدد الأُميين يبلغ نحو مليوني تركي، وعدد حاملي الشهادة الابتدائية يبلغ 17.6 مليوناً، وعدد الذين يعرفون القراءة والكتابة، ولا يحملون شهادة ابتدائية، يبلغ 7.7 ملايين، بينما يبلغ عدد حاملي شهادة التعليم الأساسي 19.6 مليوناً، ليكون عدد الذين يقرأون ويكتبون بدرجات متدنية 47 مليوناً، أي 63% من عدد سكان تركيا، البالغ 84 مليوناً. ويسعى إردوغان للسيطرة عليهم، تارةً بالإعلام، وتارة أخرى بالأمن والقضاء، وأخيراً بالتجويع والجهل، كما قال رئيس إحدى الجامعات، إذ عدّ أن “الجَهَلة والأُميين هم العمود الفقري للدولة والأمة التركيتين”. وأثبتت الدراسات أن تسعين في المئة منهم لم يقرأوا أيّ كتاب في حياتهم، وهي حال الرئيس إردوغان، بحيث قال إنه “لا يقرأ الكتب، بل إن مستشاريه يقرأون ويلخّصون له”.
ربّما لهذه الأسباب جميعاً، قال 65% من الشبّان الأتراك، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً إنهم لن يتردّدوا في الهجرة من تركيا والعيش في الخارج، إذا اُتيحت لهم الفرصة في ذلك، بعد أن فقدوا الأمل في مستقبل بلدهم، ليس فقط معيشياً، بل أيضاً بسبب الظروف السياسية والاجتماعية. فـ”أجهزة الدولة تتدخل في حياتهم اليومية، وتفرض عليهم نمطاً معيَّناً من الحياة، وهو ما لا ولن يتقبَّلوه، ما دام مستوى الذين يحكمون البلد أدنى من مستواهم، ليس فقط بالعلم والثقافة والأخلاق، بل أيضاً بالوعي والانتماء الوطني النبيل”، وهذا رأي هؤلاء الشبّان.