حسني محلي | باحث علاقات دولية ومختص بالشأن التركي
بعد الفشل الذريع في التعامل مع تبعات الزلزال الذي أودى بحياة 45 ألف شخص وإصابة ما لا يقلّ عن 120 ألفاً، وتدمير وتصدّع أكثر من 180 ألف مبنى ومنزل، يواجه الرئيس إردوغان أصعب أيامه على الصعيدين الداخلي والخارجي.
فمع استمرار حملات المعارضة التي تتهمه وجميع مؤسسات الدولة بالتأخر في مساعدة المنكوبين، خاصة في الأيام الثلاثة الأولى من الزلزال، وهو ما كان كافياً لارتفاع عدد الضحايا، فوجئ الجميع بأكبر عملية فساد تورّط فيها الهلال الأحمر التركي، الذي قام ببيع الخيم، بل وحتى المعلّبات بدلاً من توزيعها مجاناً على المتضررين من الزلازل.
وكشف الصحفي مراد أجيريل مزيداً من تفاصيل هذا الفساد الذي تورّط فيه رئيس الهلال الأحمر وإدارة المؤسسة، وهم جميعاً من أقربائه المدعومين من الرئيس إردوغان. وأثارت هذه القضية ردود فعل شعبية وسياسية وإعلامية عنيفة جداً، بعد أن اتضح أن الهلال الأحمر قد قام أيضاً ببيع الدماء التي تبرّع بها المواطنون، الذين تبرّعوا أيضاً بالأموال للمؤسسة الخيرية المذكورة، التي تأسست في العهد العثماني في العام 1868.
قضايا الفساد هذه يبدو أنها ستدفع الرئيس إردوغان إلى السعي من أجل تأجيل الانتخابات المقررة في 14 أيار/ مايو إلى الخريف القادم، حتى يتسنى له امتصاص الغضب الشعبي، فضلاً عن أسباب أخرى تستغلها المعارضة بعد أن وصل رد الفعل الشعبي هذا إلى ذروته مع مزيد من قضايا الفساد خلال عمليات الإنقاذ، وتوزيع الخيم والمساعدات بعد أن منع إردوغان الجيش من النزول إلى الشوارع في اليومين الأولين من الزلزال. واضطر إردوغان اليوم إلى الاعتذار عن هذا التقصير، مبرراً ذلك بهول الأزمة قائلاً: ” أتمنى أن يسامحني الشعب على هذا التقصير خلال الأيام القليلة الأولى “.
وجاءت المفاجأة من ملاعب الكرة حيث هتف مشجعو الأندية قبل وخلال كل مباراة ضد الرئيس إردوغان، ودعوه إلى الاستقالة مردّدين شعارات مذلّة. وهو ما كان كافياً لرد فعل الرئيس إردوغان وحليفه زعيم الحركة القومية، دولت باخشالي، الذي دعا اتحاد الكرة “إلى منع مشجعي الأندية من دخول الملاعب خلال المباريات”. كما هدد وتوعد وزير الداخلية أندية الدوري الممتاز وأنصارهم بـ” الملاحقة القانونية والعقاب الشديد”، بعد إعطاء الأوامر للأندية الموالية لإردوغان بإصدار بيانات استنكار لمساعي المعارضة التي اتهمها الوزير بـ”العمل على تسييس الرياضة”.
في الوقت الذي وصف إردوغان من انتقدوه، وفي مقدمتهم زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو بـ”الحقير ومنعدم الشرف والأخلاق” فقط لأنهم سألوه ” أين هو الهلال الأحمر؟”.
الحالة النفسية للرئيس إردوغان بانعكاساتها على سلوكه اليومي يبدو أنها ستزداد حدة وشدة مع تصاعد ردود الفعل الشعبية إزاء سلوك السلطات الحكومية، التي تستمر في سياساتها التي تصفها المعارضة بالقمعية، بعد أن حظر المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون بث قناة Tele1 المعارضة لمدة ثلاثة أيام، كما فرض على القناة وقنوات معارضة أخرى غرامات مالية كبيرة فقط لأنها انتقدت أداء الحكومة خلال الزلزال وما بعده.
التوتر في العلاقة بين إردوغان والمعارضة بات واضحاً أنه سينعكس على نتائج الانتخابات القادمة، إذ تبيّن جميع الاستطلاعات أن إردوغان سيخسرها. وهو الاحتمال الذي يبدو أن العواصم الغربية والإقليمية تسعى لاستغلاله للضغط على إردوغان لإجباره على الاتفاق معها في قضايا ثنائية أو جماعية، كما هي الحال بالنسبة إلى واشنطن والحلف الأطلسي.
فقد فشل الأمين العام للحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، الذي زار أنقرة في الأسبوع الأول من الزلزال في إقناع إردوغان بالموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسي. كما فشل وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، في إقناع نظيره التركي، جاويش أوغلو، خلال لقائهما في أنطاكيا بضرورة التنسيق والتعاون المشترك حيال القضايا الإقليمية والدولية المشتركة، وفي مقدمتها الحرب الأوكرانية والوضع في سوريا. وهو ما يتطلب ابتعاد الرئيس إردوغان عن صديقه وحليفه “المرحلي” بوتين الذي هنّأه، أمس، بمناسبة عيد ميلاده التاسع والستين، في لفتة إنسانية منه تجاه إردوغان، ويسعى بوتين لجمعه مع الرئيس الأسد في أسرع ما يمكن، وقبل الانتخابات ليساعده ذلك على التصدي لانتقادات المعارضة له في موضوع سوريا واللاجئين بشكل خاص.
وكان بعث زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، برسالة إلى الرئيس الأسد معزياً بضحايا الزلزال، وهو ما قد يعدّه إردوغان محاولة من المعارضة لتضييق الحصار عليه عبر الجارة الجنوبية سوريا. وقد يكون السبب الذي دفع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى الاتصال بالرئيس الأسد في اليوم التالي للزلزال، ثم تكليف وزير خارجيته، سامح شكري، بالسفر إلى دمشق اليوم ولقاء الأسد شخصياً، بعد قطيعة دامت 12 عاماً بين القاهرة، في عهد الإخوان، وسوريا التي تعرضت لأكبر هجمة إرهابية كونية ساهمت فيها الأنظمة العربية والإسلامية. كما جاءت زيارة الوفد البرلماني العربي برئاسة رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي (تربطه علاقات وطيدة بأنقرة) إلى دمشق ولقاء الرئيس الأسد في الإطار العربي الذي يتعارض مع حسابات الرئيس إردوغان، الذي أراد أن يواجه هذا الانفتاح العربي مسبقاً عبر المصالحة مع أبو ظبي والرياض والقاهرة.
ويبدو واضحاً أنها لا تستعجل الانفتاح على أنقرة إلا بعد الحصول منها على ما تحتاجه وفق السيناريوهات الإقليمية والدولية الجديدة. وتلتقي حسابات موسكو، في معظمها، مع حسابات الأنظمة العربية، باستثناء آل ثاني، الذين ما زالوا في نهجهم العدائي التآمري ضد سوريا عبر الدعم المستمر للفصائل المسلحة في الشمال السوري الذي تسيطر عليه تركيا جنباً إلى جنب مع النصرة في إدلب وعفرين وجوارهما.
وفي جميع الحالات، فإن زيارة سامح شكري إلى دمشق، وقبل تركيا، ولقاءه الرئيس الأسد الذي اتصل به الرئيس السيسي كانت وما زالت مؤشراً مهماً على التطورات المحتملة، وبات واضحاً أنها ستكون ضد حسابات إردوغان، إذا استمر في موقفه الرافض لمطالب الرئيس الأسد، وهي الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، وإيقاف جميع أنواع الدعم للفصائل المسلحة، السورية منها وغير السورية الموجودة في إدلب، وبالتالي الاتفاق على صيغة عملية تساعد اللاجئين السوريين في تركيا على العودة إلى بلادهم.
ويشكل التنسيق والتعاون السوري – التركي في شرق الفرات الهدف الأخير للمصالحة السورية –التركية، التي دخل على خطها هذه المرة الرئيس السيسي بعد إيران وروسيا، وإلى حد ما الإمارات. ويبقى الرهان الأخير والأهم على مدى مصداقية الموقف العربي والمصري بالذات، واستقلاليته تجاه سوريا “قلب العروبة النابض” التي لولا صمودها لكنا جميعاً، وبشكل خاص مصر في ظل حكم الإخوان، في عالم آخر.
أراد الرئيس إردوغان أن يساهم في هذا الأمر، وهو ما فعله في سوريا وليبيا والصومال والعراق، وهي الآن جميعاً القاسم المشترك لكل الحسابات الإقليمية والدولية التي ستحدد مسار السياسة التركية مع إردوغان أو من دونه. كما بات واضحاً أنه من دون سوريا لا ولن يستطيع أحد أن يحدد مستقبل المنطقة، بما فيها تركيا ومصر وأنظمة الخليج، وهو ما أثبتته السنوات الاثنتي عشرة الماضية، وإلا لما كنا نتحدث عن ما نتحدث عنه الآن، وحتى لو كان الكيان الصهيوني هو المستفيد الوحيد من هذه السنوات، وقد يسعى لضمان استمراريتها عبر التحالف القادم مع تركيا بعد الزيارة التي سيقوم بها إردوغان إلى “تل أبيب” قريباً!