جعفر خضّور | كاتب سوري
بينما نحيي اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، يصحو في الوقت ذاته الجرح الغائر في تاريخ أمتنا ومنطقتنا العربيّة بيومٍ حمل نفس تاريخ التضامن، 29 تشرين ثاني 1947، إنه قرار تقسيم فلسطين المنحوت عميقاً في ذاكرة الشعب العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، وإذ ما تعاطينا بواقعيةٍ لوجدنا المفارقة بين مضامين اليومين، ولاستنتجنا أيضاً المقاربة التي تتلخّص في النِفاق والتآمر الدولي الذي أعطى “إسرائيل” – وفق منظور الأمم المتحدة – الحق في استمداد شرعية قيامها في 15 أيار 1948 من قرار التقسيم الموسوم بالبطلان، وكأنَّ الأمم المتحدة أرادت من يوم التضامن الذي يذكّر وفق المفروض بفلسطين التاريخيّة أن تنسينا سقطتها الفظّة، التي جرفت معها أرض الشعب الفلسطيني وحصدت آلاف الأرواح وحتى اللحظة منذ أن تركت بريطانيا المفاتيح تحت الأبواب لـ “دولة إسرائيل”. وما ساد أيضاً قبل صدور القرار من ضغوطات دولية مهّدت له.
في أيار 1947 عيّنت الأمم المتحدة لجنة خاصة بشأن فلسطين (اليونسكوب) مؤلفة من أحد عشر عضواً، مهمتها دراسة “القضية” وتقديم توصيات يمكن من خلالها اختيار أحد الاقتراحين، أي دولة عربية ويهودية، أو دولة وحيدة بتمثيل نسبي، وهو ما مثّل سعي الأمم المتحدة الناشئة حديثاً بعد إعلان بريطانيا عن نيتها بانسحاب قواتها من فلسطين، ولعلّ بذور الميل الأميركي – البريطاني لليهود الذين كانوا لا يشكّلون سوى ثلث أرض البلاد، تمظهرت في تمثيلهم المعترف به من بريطانيا العظمى وأقصد هنا (الوكالة اليهودية) كممثلّة ليهود فلسطين، هذا ومع عدم إغفال ما سبق وما تبع “وعد بلفور” من إنشاء لمكاتب يهودية، وصناديق تدعم الاستيطان، وتشجّع على الهجرة لفلسطين وتؤكد ضرورتها.
هذه الوكالة عززت تواصلها مع زعيم الحركة الصهيونية “وايزمان”، في سبيل تأمين عدد الأصوات المطلوب (أكثرية الثلثين) في الاقتراع الذي ستجريه الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن أعلنت في 1 أيلول من العام نفسه، في تقرير نشرته، جاء فيه:
” ليس هناك سوى التقسيم، يعبر تعبيراً حقيقياً عن هذه التطلعات الوطنية لطرفي النزاع (العرب واليهود)، ويتيح لهذين الشعبين أن يحتلا مكانتهما كأمتين مستقلتين في إطار المجتمع الدولي والأمم المتحدة “.
ضغطٌ ينافي الشرعية الدولية:
في 27 تشرين الثاني – تحت القبة الزجاجية لميدان التزلج القديم في فلاشينغ ميدوز، حيث كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، تعقد جلساتها العامة، سيطر اليأس على أعضاء الوفد اليهودي، فأمس اجتمعت اللجنة الخاصة المشكلة لتنظيم اقتراع شبه رسمي، كان اليهود يعتمدون على مندوب الفلبين، الجنرال كارلوس رومولوس، لكنه أعلن أنه سيقترع ضد التقسيم؛ كما أن حكومة هاييتي، التي كانوا يعتمدون عليها أيضاً، أوعزت إلى وفدها في الأمم المتحدة بالمعارضة.
شهدت مرحلة ما قبل الاقتراع مناورات يهودية لم يضع الرئيس البرازيلي العقبات في طريقها، من أجل تأخير الاقتراع – ذلك أنه بمناسبة عيد الشكر الأميركي قرر تأجيل الاقتراع لبعد يومين أي لـ29 تشرين الثاني، وهو ما أعطى الوفد اليهودي الوقت لإقناع الدول المترددة بالتصويت، على سبيل المثال، هدد روبرت ناثان، هو أميركي ذو نفوذ، صاحب شركة صناعة الإطارات، والذي يمتلك المزارع الشاسعة في ليبريا، بمقاطعة منتجاته إذا لم تضغط الولايات المتحدة (أي بلاده) على ليبيريا لتقترع إلى جانب التقسيم.
أيضاً، الرئيس كارلوس روجوس تدخّلَ شخصياً ليقول للوفد: “إنه بسبب المصالح العليا للفلبين عليها أن تغير موقفها من التصويت وتوافق على التقسيم”.
بينما كان قرضاً بقيمة 5 ملايين دولار كافياً لشراء صوت هاييتي (سبقها محاولات لإقناعها).
تجاوز للقوانين وانسياقٌ وتلاعب:
بتفضيل الأمم المتحدة للتقسيم، تكون قد خالفت المادة الخامسة من صك الانتداب الذي وضعت تحته فلسطين منذ 24 تموز – 1922، وبشكل أساس المادة 5 منه التي “تحظر التنازل عن أراضي فلسطين أو تأجيرها أو وضعها تحت رقابة أي سلطة أجنبية”.
علاوةً على مخالفتها وتناقض قرارها مع المادتين 10 و 14 من ميثاقها، اللتين تخوّلان الجمعية العامة حق ( إصدار التوصيات من دون اتخاذ القرارات )، فكيفَ أُلزِم قرار التقسيم إذن؟! وعلى أي أساس تستمد “إسرائيل” شرعيتها منهُ؟!
ذلك أنَّ قرار التقسيم كما أرادته الجمعية العامة قرار إلزامي لا توصية بسيطة غير ملزمة، يضاف لهذا تضمّنه لبند يطلب فيه من مجلس الأمن “اعتبار كل محاولة لتغيير التسوية التي نصَّ عليها القرار تهديداً للسلام، أو إخلالاً به، أو عملاً من أعمال العدوان”.
أمّا الإخلال والكذب والمخالفة البيّنة يتضحوا في عدم قدرة الجمعية العامة على اتخاذ قرار قابل للتطبيق بقوة إلا في إطار قرار “الاتحاد من أجل السلام”، الذي خوّلها الحلول مكان مجلس الأمن في حال عجزه عن اتخاذ القرارات المهمة والعاجلة بسبب كثرة استعمال حق النقض، لكن!!!!! قرار “الاتحـاد” صدر في 1950 أي بعد قرار التقسيم، نِفاقٌ من أي نوعٍ هو؟!!
يوجز الاستعراض التاريخي المُسلف، في بطلان قرار الأمم المتحدة القاضي بإنشاء “إسرائيل” ويعتبر تصرفاً لا يقوم على أساس قانوني ولا أخلاقي حتى، من خلال:
1 – صدوره عن جهة تجاوزت صلاحياتها باتخاذه (الجمعية العامة).
2 – يتناقض مع حق تقرير المصير المبدأ المشهور نظرياً من مبادئ الأمم المتحدة.
3 – عملية التصويت جرت ظل مناورات ومساومات وضغوطات لم يسبق للأمم المتحدة أن عرَفَتها، كما ذكر الراعِ الأميركي آنذاك الرئيس هاري ترومان.
4 – تعليق عضوية “إسرائيل” على شرطٍ ملغ لم ينفذ، يتركز في مناورتها عقب اتفاقية “لوزان” بعد رفض مجلس الأمن لقبول عضويتها، حيث تعهّدت حينها في التخلي عن الأراضي المحتلة من قِبَلِها خلافاً لقرار التقسيم، وموافقتها على إعادة اللاجئين الفلسطينين لديارهم.
ما يهمنا التأكيد عليه، في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، أننا كدول وشعوب محور المقاومة لا نتضامن مع فلسطين وشعبها، بقدر ما نتماهى حدّ الالتصاق، حركةً وسكوناً، هدوءاً ووثوباً، مع قضيتنا الأم فلسطين، ولأنه لا يمكن أن تجمع في قلبك حبٌ ينافي حبَّ فلسطين، أو يعارضه، أو يخامره بشوائب التشكيك ولو قليلاً بأحقية هذا الشعب على أرضه وفيها، ولأنه أيضاً، لا يعدو هذا اليوم سوى – تذكير – دولي لمن نَسى، أو تناسى، أما نحن فكل يوم لنا هو يوم فلسطين والقدس والشهداء، ولسنا غرباء عنها ولا عن أرضنا ولا عن تكوين قضيتنا حتى نتضامن، أو نعبّر بكلمةٍ هنا، أو أخرى هناك، عن الحق المبين، في مواجهة الباطل والظلم والكفر الصهيوني والرَجعي، الذي يُمعن فينا قتلاً وإرهاباً وإزهاقاً للأرواح، أما أولئك الذين رؤوا “إسرائيل” داعية سلام واستقرار، فهم تمايزوا، ومن موجبات المضي المُنتج لصفّ الحقّ الذي يشكّل محور المقاومة عموده الفِقري تمايز المهرولين السّاقطين، الذين نأووا بأنفسهم، ودينهم، وأخلاقهم، عن بوصلة الأمّة، ومهبط رسالات الأنبياء، ولم يقرؤوا من التاريخ شيئاً، ولم يَفهموا تعليل الدعم الأميركي
لـ “إسرائيل” واندماج الأنظمة العربية الرجعية معها.
ولم ينظروا للتاريخ، أبداً، أو أنهم نظروا وانقلبوا.
وفي الوقت الذي لم يعدو فيه تعبيرهم عن حبهم لفلسطين وانتمائهم لقدسها الشّريف حرب بيانات، وتفسيرات ملطّفة لمساعٍ أميركية واضحة المنال، كنّا نقدّم الأرواح والدماء، والجهاد، بكل ما يجمعها من مقاومة جعلنا منها منهجَ حياةٍ ومنهاجَ كرامة، من إيران بثورتها التي كانت كلمتها المفتاحية فلسطين، لسورية قلعة المقاومة وعرينها وحاضنة فلسطين ومبتدأها، لحزب الله حامل راية تحريرها ومسطّر آيات الاستبسال على طريقها وإليها، لليمن قاتل الوهابية الأول ومدمّر حصن راعيها، للعراق القوي بحشده وشعبه الواع، لشعب البحرين، لفنزويلا، لكوبا، ولكلّ داعمٍ ومحبّ وملتصقٍ بأحقية الخيار وحتمية القرار، قرار التحرير والتحرر، من الكيان اللقيط “إسرائيل” المنحدرة نحو قاع الزوال، المُزلزَلة بطعنة سكين، وطلقة أقسمت ألا يكون مآلاها إلا العدو التاريخي لفلسطين، وشبابٌ حقنوا العروق ببهجة الإيمان، وجوى العنفوان للانعتاق والانتصار، مدمّرين الكيان اللقيط قاتل الأطفال، المنفرد في الإرهاب، المتفرّد في القتل والتنكيل والقضم والاستيطان، المخالف لكل الشرائع والشرعيات، كيف لا، وهو لا شرعي!
في الختام، الفصل الأخير من أي قصة هو الفصل الأهمّ، ففي هذا الفصل تتراكم أحداث القصّة وتتصادم عناصرها، وهو الأخطر ففيه يحاول الخاسر تعويض خسارته، والرّابح أن يجني أفضل الثمار من ربحهِ، وفيه، إمّا أن يخرج المولود وهو النصر بعد آلام مخاضَ الولادة ميّتاً، وإمّا أن يخرج صحيح الجسد والرّوح، وباعتقادنا وبعقيدتنا الرّاسخة أن مولودَ محور المقاومة والذي هو مولود الشعبِ الفلسطينيّ لن يخرج إلّا منتصراً وصحيحَ الجسدِ والرّوح فالانتصارات المراحلية المتراكمة والتي شكّلت نواة الدفاع عن فلسطين تهيّئ الولادة الصحيحة والانتصار الناجز، ولا يقدح في حق الملكية انتزاعها من صاحبها، فحق الفلسطينيّ بأرضه تاريخيّاً وجغرافيّاً قرارٌ بات مبرم، لا منبرم، لا يقبل الطعن بأي طريق من طرق الطعن.