كتب جعفر خضور | منبتُ رجال الله، معلَمُ الأجيال

جعفر خضور | كاتب سوري

ما أن خمدَ بركان صرخات الحناجر المتدفّقة من صيحات القلوب، في قَسَمِ تجديد البيعةِ والوفاءِ والولاء لسيّد الوفاء السيّد حسن نصر الله، ضمن احتفالية وضع الحجر الأساس لمعلَم “جنتا” السياحيّ الجهاديّ، حتى دفعتني حميّة الفخر وفيضَ العشقِ لأن أُخطَّ بعضاً من حروف أبجدية التّاريخ، هذا التّاريخ وهو ما كانَ ليكونَ تاريخاً وذو زمنيةٍ عظيمة، أو لنقل لكان بقي يوماً على الروزنامة، لولا دماءٍ طُهر عمّدت التُراب وأينعت ثمار أشجارها المرويّةَ بعرقِ الجبين وكدِّ اليمين وعزيمة المؤمنين الصّادقين، فالطلقةُ الأولى لم تقتُل من وجِّهت إليه فوهة البندقية عندما وصلت للهدف، بل بلحظةِ خروجها من بيتِ النّار، لأنّها ليست مجرّد طلقة أو رصاصة تقضي مهمّتها في وقتٍ آنيّ، بل نسجَ صوتها، وضغطة زنادها متنَ تاريخٍ تتغنّى بهِ الأجيال، ويكون ذاكرةً وذكرى مفصليّة تتربّعُ على عرشِ القلوب وتهيمُ بها الأفئدة عشقاً واندماجاً حدَّ الالتصاق .

تُلقي ذكرى تأسيس المقاومة على عاتقِ الكاتب جهداً إضافياً، يتركّز في القدرةِ على الموازنةِ بين العقلِ المُراجع للبدايات، والقلبِ الفائضِ بقطراتِ العاطفةِ الجيّاشة نحو المقاومةِ الشريفة، ألا أنَّ هذه المقاومة التي حَقنت في عروقِ مُحبيها ومُريديها الصبر ربّتهم على البصيرة النافذة، ووميضُ البداياتِ وإن كانَ لا يزال آنذاك طفيفاً ألا أن مفتاحه هو هذه البصيرة.

توفّر هذه الذكرى العظيمة الخالدة بما يُحيطُ فيها من هالةٍ قدسيّة الفرصةَ الذهبيّة لإبراز نقاط القوّة المبتدئة من ضعف، والصعود المنطلق من سكونٍ على مستوى القدرة لا الرّوحية، والنجاح المجترح من الصِعاب والقِفار، فإذ ما توقّف أيُّ متابعٍ لمسيرة النشوء المكلَّلة بمسار المجد، لقاربَ بعد أن يقارن بين المقاومة
منذ طلقتها الأولى والمقاومة اليوم، المقتدرة القوية المؤثِّرة والحاضرة في أكثر من ميدان، سياسيّ، إعلاميّ، عسكريّ، بما يمتاز فيه هذا الحضور الذي ينأى أن يكون مادياً فقط، أو أن يغيب في حمى الأحداث وانفجارها التلقائي، ليسجّلَ حضوراً روحياً يؤسس لمفاصلٍ تاريخية وازنة، وأحداث التاريخ لا تُخبّئ نفسها، وبرأيي أنَّ الحدثَ التاريخيّ الجوهري هو كسر المقاومة لقدميّ الكيان الصهيوني اللتين يقومُ عليهما، الأولى: “وهو أن كلّ أرض تطؤها قدمكم فهي لكم”، وهذا تحقق بتحرير أيار – عام ٢٠٠٠.
والثانية: “نظرية الأمن القومي الصهيوني”، القائمة على تعظيم “إسرائيل” في كل مراحل الوعي العربي، وخصوصاً تلك الموجَّهة للفئات الرخوة في المجتمعات
العربية والغربية، وتأتي أُكلُها في خضمّ مراحل الكيّ التوعويّ وإيجاد ثغرات للنفاذِ منها وإليها، وهذا باتَ وراء ظهورنا، لمن يعتنق المقاومةَ نهجاً، وفكراً، وعملاً.

تتسمُ المقاومة الإسلامية في لبنان بخصائصَ فريدة
استُجلبت من عواملٍ عدّة استشرفها المؤسسون الأوائل، بنظرةٍ ثاقبةٍ تحظى باحترامٍ وتقديرٍ كبيرين، ويمكن الإيجاز في ذلك، من عدّة جوانب:

1 – أنَّ حزب الله استقرء منذ انبعاث النور الأوّل لتأسيسه خطورةَ الإرهاب تحت غطاء الدين، وهذا ما وضّحه السيد حسن نصر الله خلال لقاء خاص عُرض على شاشة الميادين، وإيرادي لهذا الجانب يتمثّلُ في أن توقيت نشوء الحزب، كان توقيتاً حساساً ودقيقاً ويتطلّب كثيراً من الوعيّ السياسيّ والدينيّ، وتتأتى حساسية التوقيت وإن كانَ الظرف الإقليمي آنذاك يؤمّن مناخاً لطيفاً لنشوء وترعرع حركاتٍ إسلاميةٍ تحملُ فكراً تحريرياً، ألا أن الظرف الدولي كان يطبخ على نارٍ هادئة عناوين الحروب المقبلة والتي سيكون مدماك عملها، التطرّف الدينيّ الممرِّر لأجندات دوائر صنع القرار الأميركي والصهيوني، وهنا، أوردُ ما قاله مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق كارتر : “الأصوليّة الإسلاميّة حصن منيع ضد الشيوعيّة”. وبذلك نجد أن المقاومة استشرفت المخاطر وهي في طَور الطبخ في القِدرْ، وصاغت واقعاً يضع فواصل تتيح لكلّ من سيتأثر بموجات التزييف والتحريف، المقارنة والمقاربة بالعقل السليم وبالاستشهاد التاريخيّ وبالهدف المحدد والواضح المستند لدعائم الارتكاز الأساسية.

2 – أنَّ المقاومة ورغم حضورها الغير ممتدد عضوياً إقليمياً، وإن حتّمت خيارات الضرورة الحضور، استطاعت أن تسجِّل حضوراً أعظم في وجدان الأمّة، وعبرت رغم وجودها في لُبنان حدود القوميات والطائفية وحتى البلاد ليكون مكانها قلوب محبيها، وضميرهم الحيّ، ونفوسهم الواثقة المتوثّبة والمتطلّعة نحو الحرّية السّاطعة، وبأنها أيضاً كانت المنصّةَ المُلهمة لفلسطين بانتفاضتها عام ٢٠٠٠، وما تلاها من معادلاتِ ردعٍ ورعبٍ وتوازنٍ، وصولاً لوحدة الدّم الكاسرة لكل مشاريع الهيمنة والتفتيت والصياغة وفق النماذج والماركات الأميركية.

3 – التعامل المتفرِّد مع الأزمات الداخلية، والتصدي للخارجية الأساسية التي تُشكّل منهاج العمل والجهاد، وهذا قلّ ما نوجدهُ في حركات وأحزاب تعمل لتحقيق هدف واحد، أو عدة أهداف لا تخدم الهدف الواحد، وتضيع وتتعثر في حبائل السعي نحو التسلُّط والسلطة، والمكاسب التي تدفع فيها لبيع مبادئها وبرنامجها الوطنيّ.

4 – الحنكة التفاوضية المتفوقة، ما يتمترس عند الحديث عن “اليهود” هو إتقانهم للمفاوضات ودفعهم للطرف المُفاوِض نحو تقديم مزيد من التنازلات، حتى يؤمّنوا لأنفسهم حركة أكثر مرونة لتحقيق هدفهم، وهذا ما حصل في “أوسلو” عندما دفعت “إسرائيل” منظمة التحرير نحو جلب أدلة ما يبرهن شرعيتها، فأضاعت الوقت ولم تدرُس متون الاتفاق وما زالت تبصق دماء التسرُّع حتى اللحظة، رغم الاعتراف الدّولي فيها حتى قبل التفاوض عام 1974 !
أمّا المقاومة في لبنان، خطت خطوات نوعية وذكية في هذا المجال، عبر التفاوض غير المباشر، وتعديل تفاهم نيسان عبر تغيير كلمة فيه، لتؤرق العدو حتى يومنا هذا، بتغييرها لهذه الكلمة، ولفرضها أيضاً في مناخات حَرجة معادلاتٍ قبل المباشرة بالتطبيق الفعليّ لها، عبر الجمع بين القوّة والتفاوض المستند لقوّة، وإن لم يكن مباشراً، بقدر ما قد يكون توجيهيّاً.

5 – الترابُط الرّوحي بين مجاهديها وحاضنتها، وهو لا ينفصل بأي شكل عن التعبئة الرّوحية، والمتمركز من الثقة المستمدة من المقاومة والتي برهنتها انتصاراتها العديدة منذ النشوء وحتى النجاحات المراحلية، في الصدّ، والرّد، والتطوّر، والتطوير .

6 – التكتيك العسكري المقلق “لإسرائيل”، وهو ما يعرف بـ “حرب العصابات” التي تعتمد على عدد قليل من المقاتلين، ولكن تحقق نتيجة أكبر رغم القلّة، وأول ظهور لهذا التكتيك كان في الصين، وتحدث عنه “ماو تسي تونغ”، لما لهذه الحرب من أبعادٍ استراتيجية وتكتيكية تتماهى وأرض المعركة المجابه فيها، على مبدأ “اضرب و اهرب”، أي أخرُج بأقل الخسائر .

وخير ما نختتم فيه مقالتنا، هو مبتدأ كلّ خيرنا المعمّد بالدّماء، والمرصّع بالانتصارات، والمجسِّد لقوة العقيدة، والمبرهن لقوة المقاومة (بعمقها السوري والإيراني)، بالرحمة لشهداء محور المقاومة أجمعين، ولذاكرة ذكراهم الغالية التي ستُرقِّن قيدَ حياة “إسرائيل”.

Exit mobile version