جان عزيز | كاتب وباحث لبناني
قبل ثلاث سنوات، في ذلك الفندق الضخم في قلب واشنطن، كان دونالد ترامب واقفاً، بكلّ خُيَلائه الملامسة مرض الجنون، وسط الآلاف من المشاركين في التقليد السنوي الأميركي الشهير، “فطور المصلّين الوطنيين”، يخطب متبجّحاً بقراره شطب قاسم سليماني قبل أسابيع قليلة.
على طاولة قريبة من المنصّة الرئاسية، كان كونغرسمان “ديمقراطي” سابق عتيق لا ينفكّ يتذمّر وهو يستمع إلى عظة حمي (والد زوجة) كوشنير. وبلا سؤال، راح يشرح لمجالسيه: لا مشكلة لدينا مع إيران. إنّها مشكلة إسرائيل معها. نحملها نحن. مصلحتنا مع إيران في استمالتها لاستكمال بنائنا “السور الأميركي العظيم” حول الصين. هناك مصالحنا الاستراتيجية. بينما هاجس إسرائيل في إبقاء الصراع بيننا وبين طهران لئلّا تتصالح ضفّتا الخليج. تريد إسرائيل بأيّ ثمن إبقاء الصراع الإيراني الخليجي مستعراً، كي تظلّ السوق الخليجية مفتوحة لها… ونحن بكلّ عظمة أمّتنا يحوّلنا هذا الرجل أداة صغيرة في حسابات المصالح الإسرائيلية الاقتصادية الضيّقة…
الزلزال السياسيّ والجيوستراتيجيّ
هو شيء قريب من الزلزال السياسي والجيوستراتيجي ما أُعلن قبل أيام من العاصمة الصينية.
صحيح أنّه إعلان محدود ببضعة سطور. لكنّه نقطة انطلاق. بداية مسار. يلزمه الكثير من الوقت والتطوّر ليدرك العالم مآلاته. لكنّه في المفهوم النظري، وفي حال بلوغه حالة اكتمال من التحالف الثلاثي، يشكّل فعلاً حدثاً زلزالياً على مستويات كثيرة، أبرزها اثنان:
أولاً، على صعيد إسرائيل ومعضلتها المركزية في منطقة الشرق الأوسط.
ذلك أنّ المشهد الأساسي لمعادلة الصراع الرئيسي في المنطقة في الأعوام الماضية، رسمته المسيّرات الإيرانية المنطلقة من اليمن الحوثي، لقصف منشآت أرامكو في أيلول 2019. يومها بدت الرسالة فاقعة. مرشد طهران يقول للدولة المركزية في الخليج: كلّ مشاريعكم ورؤاكم المستقبلية وطموحاتكم التنموية وملياراتها المرصودة، باتت كلّها في مهداف بضعة آلاف من الدولارات، كافية لوضع طائرة لعبيّة مفخّخة صغيرة، في يد شابّ يمضغ القات، ويركض بالشبشب اليمني، خلف إيمانه الجديد بأنّ الشهيد حسين بدر الدين الحوثي هو استكمال آنيّ وراهن لمسيرة حسين عاشوراء.
ويومها خرج زوج ميلانيا ليقول للرياض ما اختصاره: عليكم أن تدافعوا أنتم عن أنفسكم. وإذا طلبتم منّا مساعدتكم، فعليكم أن تدفعوا ثمنها. والثمن نحن من يحدّده.
في تلك اللحظة تفتّق فالق جيوستراتيجي جديد في المنطقة، مولّد لكلّ الهزّات. أولاها أصابت ميثاق روزفلت-عبد العزيز الموقّع بُعيد اتفاق يالطا بالذات. اهتزّت معادلة حماية واشنطن لقاء طاقة الخليج. ولم تعد قائمة على أرض مصلحية متبادلة صلبة كفاية. فتحرّكت ضفّتا الفالق لترسم محورين جديدين: محور قاسم سليماني كما رسمه عقب انتخابات لبنان النيابية قبل ذاك بنحو عام ونيّف، من بيروت إلى صنعاء مروراً بدمشق وبغداد وغزّة، في مقابل محور ما تجسّد بعد أشهر في “اتفاق أبراهام”.
مصير المحاور
خلاصة المعادلة: صار هناك محوران في الشرق الأوسط: “محور الشرّ” الإيراني، ومحور “السلام الإبراهيمي”. فيما واشنطن متفرّجة بسطحيّة، أو متذاكية بوهم الإفادة من عروض المحورين لها، أو عاجزة بفعل سباتها منذ عقدين على مجد أنْ مات كارل ماركس، عاش آدام سميث، للأبد.
مع إعلان الاتفاق الصيني بين الرياض وطهران، تبدّل هذا المشهد برمّته. الأكيد أنّ من المبكر الكلام عن سقوطه وانتهائه. لكنّ شيئاً جديداً مغايراً قد بدأ. وقد يحتاج إلى سنوات لتتبلور اتجاهاته ومجالاته. لكنّه في حال استمرّ، سيجعل إسرائيل في وضع استراتيجي صعب. وهو ما له تداعيات وتقلّبات، من هنا إلى واشنطن مروراً بأوروبا بشرقها وغربها.
ثانياً، على مستوى المشهد الجيوستراتيجي الدولي.
في وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” الأخيرة التي أصدرتها إدارة بايدن في تشرين الأول الماضي، كلام واضح مباشر عن أنّ الأولوية في الصراع الاستراتيجي الحالي لواشنطن، هي بيجينغ. هي المنافس والخصم والعدوّ وكلّ تسميات الطرف الآخر من لعبة الشطرنج الكوكبيّة.
وكما في كلّ صراعاتها العالمية، ثمّة بروتوكول علاجي واحد ثابت لدى “روما الجديدة”. تُخرجه كلّ مرّة من أدراج مؤسّساتها وتبدأ بتطبيقه. وعنوانه: الحصار. أو بلغتها الدبلوماسية التاريخية: “الاحتواء”. موسكو الستالينية بلباس الماركسية، خضعت لهذا البروتوكول 40 عاماً، وعلى جبهتين: على جبهتها الغربية مواجهةٌ مع ليبراليات أسواق الديمقراطيات المسيحية المدعومة من مشروع مارشال. وعلى جبهتها الشرقية صراعٌ مع إسلاميات متعدّدة التسميات والولاءات. وهو ما أرفقته واشنطن مع إغراق نفطي لتخفيض الأسعار والعائدات، وسباق تسلّحيّ لمضاعفة كلفة الصراع. عقود من هذا الاستنزاف لرفاق لينين، حتى انتصر يلتسين.
البروتوكول نفسه وضعته واشنطن قيد التنفيذ صينياً. مشروع حصار كامل. من جزر “دياو يو داو” في أقصى الشرق، إلى سلسلة مضائق كوريا وفورموزا ومالاغا شرقاً وجنوباً، انتهاء بإطلالة الهند اللدودة على الممرّ الصيني-الباكستاني الاستراتيجي عند زاوية كشمير، وإطلالة أفغانستان الطالبانية على الخاصرة الصينية في إقليم شينجيانغ المسلم، في المقلب الآخر من خارطة القارّة الماوية، مروراً بسلسلة القواعد الأميركية العسكرية المتعدّدة الأشكال والهويّات. بين جزيرة ودولة وثلاثي “أوكوس” ورباعي “كواد”، انتهاء بحصار ألغوريتميات “تيك توك” الفضائية المعولمة.
شيء من لعبة داما على رقعة كونية: السور الأميركي العظيم في مواجهة حركة “الحزام والطريق” الصينية. كلّما تقدّمت بيجينغ بحجر. صدّته واشنطن بصخرة. والسور المذكور ليس عسكرياً وحسب. بل هو اقتصادي أيضاً وخصوصاً. يشمل طرق النقل البحري والبرّي وموارد الطاقة وموصلات التكنولوجيا واتفاقيات التجارة البينية والوحدة النقدية للتبادل. كلّ ذلك بالنسبة إلى صراع واشنطن مع الصين، هو بأهمية القواعد العسكرية وحاملات الطائرات والغوّاصات النائمة في قعر المحيطات.
قبل أيام، سجّل الاتفاق السعودي الإيراني برعاية خليفة ماو، دخول قطعة مجترحة جديدة على الرقعة. شيء من حصان مجنّح قافز فوق القطع الكلاسيكية والحواجز الأميركية. حصان يحمل طيّ أجنحته، مسالك جديدة ممكنة للطاقة والأسلحة والمال ودروب الجغرافيا وحساسيات الدين والإلحاد. حصان قادر، إذا لم تتنبّه قلاع الرقعة الأميركية، وخصوصاً “مجانينها”، لحركته وتداعياتها، على أن يقفز بعد بضع خطوات أو “حذفات”، ليحاصر ملك الخصم فجأة، بكش مميت. كش، من نوع استبدال الدولار بوحدة نقدية تبادلية دولية أخرى. ولو في مدى أعوام عديدة طويلة. لكنّ واشنطن تعرف تماماً ما هي ترجمة البيزنس، لمقولتها البيبليّة، بأنّ ألف عام في نظر ربّها، كمثل أمس يوم الذي شهد إعلان بيجينغ.
ماذا عن لبنان؟
وسط هذا التطوّر الكبير، ثمّة من يسأل: وماذا عن لبنان في ذلك الحدث؟!
سؤال، لا بدّ أنّ ثمّة من طرحه على آرمسترونغ حين وطئت قدماه أرض القمر: لا شكّ أنّك رأيت لبنان من فوق. ولا بدّ أنّ طارح السؤال يومها، لا تزال ذرّيته تتوارث سؤاله. تماماً كما تتوارث ذرّيات السلطة في بيروت، عقمها وفشلها وتفاهتها، حفيداً عن جدّ.
المصدر | اساس ميديا