الكسندر نازاروف | كاتب وباحث روسي
شهدنا زيادة متسارعة في عدوانية الخطاب الأمريكي تجاه الصين منذ رئاسة دونالد ترامب. وفي الأسابيع الأخيرة لم تفوت واشنطن يوما دون أن تعلن عن تهديدات جديدة للصين.
اتضح ذلك بشكل خاص بعد مبادرة السلام الصينية بشأن أوكرانيا.
لقد فضلت الصين لعقود الامتناع عن المشاركة في أي صراعات دولية والتظاهر بأنها دولة من دول العالم الثالث، فيما راكمت في هذا الوقت قوتها الاقتصادية والعسكرية.
ومع ذلك، فقد انتهت هذه الفترة، وأدركت الولايات المتحدة أولا، والآن الصين أنه لا توجد مساحة كافية تحت الشمس للقوتين، وأن المعركة المصيرية المميتة قادمة لا محالة.
إلا أن هناك شكوكا حول ما إذا كان كلا الجانبين قادرين على تمزيق الاقتصاد الذي يضمهما معا بحكم الأمر الواقع، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية هي مصدر التكنولوجيا والسوق الرئيسي، والصين هي مصنع الإنتاج.
وعلى الرغم من التوترات السياسية، فقد سجلت التجارة بين البلدين رقما قياسيا في عام 2022، وزادت الصادرات الأمريكية إلى الصين بمقدار 2.4 مليار دولار لتصل إلى 153.8 مليار دولار خلال العام الماضي، فيما زادت صادرات السلع من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمقدار 31.8 مليار دولار لتبلغ إلى 536.8 مليار دولار، بينما تزيد الصين من اختلال التوازن لصالحها بوتيرة متسارعة.
ومع ذلك، تم تدمير النموذج الذي كان يناسب كلا الجانبين لعقود، عندما كانت الصين تستثمر الدولارات التي تحصل عليها في سندات الحكومة الأمريكية. الآن، تتخلص الصين من السندات الأمريكية، وتزيد من الاستثمار وتشتري نفوذها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها من الأماكن.
إن الوضع على المدى الطويل كارثي على مواقف السياسة الخارجية الأمريكية. كذلك، فإن استبدال الإنتاج الأمريكي بالصيني لا يمكن أن يستمر طويلا، وقريبا لن يكون هناك ما يحل محله. وبالنظر إلى أن الصين توفقت عن إقراض الولايات المتحدة وبسبب الأزمة الاقتصادية، يجب أن يكون لدى المستهلكين الأمريكيين أموال أقل، لذلك فإن السلع الصينية الأرخص تحل محل نظيراتها الأمريكية باهظة الثمن بشكل أسرع.
علاوة على ذلك، بدأت البنوك المركزية الغربية، بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، في طباعة النقود غير المغطاة، وتوجيهها أولا وقبل كل شيء لإنقاذ نظامها المالي. أما الصين، فقد تصرفت على نحو مختلف، وعلى الرغم من طباعتها أيضا نقودا غير مغطاة، حتى على نطاق يتجاوز أي دولة في الغرب، إلا أنها كانت تقرض الصناعة. وعلى مدار العقد ونصف الماضيين، أنشأت الصين قدرة صناعية هائلة لن تؤتي ثمارها إلا لو استولت الصين على أسواق جديدة وزادت من صادراتها.
بمعنى أن الصين لم يعد أمامها خيار سوى البدء بنشاط أكبر في طرد الغرب من أي أسواق، سواء من دول ثالثة أو من أسواق الغرب نفسها.
وبالانحراف عن الموضوع الرئيسي قليلا، أود الإشارة إلى أن حتمية انهيار الاقتصاد العالمي إنما تتجلى هنا. فالتيسير الكمي، أي طبعة النقود الورقية غير المغطاة، لم يحل المشكلة، وإنما على العكس، عجّل بنمو الاختلالات، حيث تعمل طباعة النقود في الولايات المتحدة الأمريكية على تسريع نمو الصين وتسريع موت النظام الأمريكي الصيني.
الصين ستفلس إذا لم تواصل توسعها نحو الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية، بدورها، لا تستطيع الحفاظ على نموذج يحل محل الإنتاج الأمريكي بالصين. لكن وقف التجارة سيطلق على الفور تضخما مفرطا في الولايات المتحدة ويدمر الاقتصاد والبلاد بسرعة.
في الوقت نفسه، أوجدت الصين تقريبا قاعدة تكنولوجية مستقلة للنمو، حيث يوضح أحدث تقرير صادر عن المعهد الأسترالي للسياسات الاستراتيجية أن الصين تقود الأبحاث الأساسية في 37 من أصل 44 من قطاعات التكنولوجيا المتقدمة، بينما تقود الولايات المتحدة السبعة المتبقية، فيما تستطيع الصين احتكار 8 من هذه القطاعات.
إضافة إلى ذلك، أصبحت الصين أقل اعتمادا على التجارة الخارجية، فنمت نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين حتى عام 2006 تقريبا، عندما وصلت إلى حوالي 65%، لكنها انخفضت منذ ذلك الحين بشكل حاد إلى أقل من 40%.
تبلغ هذه النسبة في الولايات المتحدة حوالي 25%، وتلك نسبة أقل بكثير من مثيلتها في الصين، لكن يجب ألا ننسى أن حوالي 78% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية تنتج في قطاع الخدمات، أي أنه ذو طبيعة افتراضية. وفي حالة حدوث أزمة حادة، كما كان الحال خلال فيروس كورونا عام 2022، سيتوقف الأمريكيون عن تقديم المشورة لبعضهم البعض بشأن الأسهم التي يجب شراؤها أو كيفية مقاضاة بعضهم البعض، ما سيؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بمقدار النصف، وسيتضح أن جميع السلع التي يستهلكونها تقريبا مصنوعة في الصين.
في الوقت نفسه، تصنّع شركة “آبل”، على سبيل المثال، أكثر من 90% من منتجاتها في مصانعها بالصين.
باختصار، أعتقد أن الانفصال بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية سيكون مؤلما لكلا الجانبين، خاصة بالنسبة للأخيرة.
يبدو لي أن الصين قد تخاطر بخوض الحرب، على أمل تعويض الفجوة مع الولايات المتحدة من خلال زيادة تجارتها مع الدول الأخرى. إلا أن هذا سيتطلب حرية التجارة البحرية، في الوقت الذي تتأخر فيه ممرات النقل البري عبر روسيا أو كازاخستان، ولا يمكن أن تحل محل التجارة البحرية بالكامل، حيث ستكون طرق التجارة البحرية للصين هي الهدف الأول للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن وضع الولايات المتحدة الأمريكية أسوأ، فلا يمكنها أن تتخلى عن الصين، لهذا يبدو لي أنه سيتم تطبيق نهج مشابه لـ “الضريبة الخضراء”، وسقف سعر النفط الروسي. أي أن الهدف سيكون إخضاع الصين والسرقة الاستعمارية، ولكن ليس تدميرها. في الوقت نفسه، وكما الحال مع روسيا، سيتم وضع كل الرهانات على حرب خاطفة، بأقصى ضغط في فترة زمنية قصيرة، على أمل استسلام سريع للصين. فالغرب سيخسر حربا طويلة.
أظن في رأيي المتواضع أن الولايات المتحدة الأمريكية تبالغ في تقدير قوتها. لكن، ومن ناحية أخرى، فليس لديها أي مخرج، وإذا لم تقاتل في السنوات الخمس المقبلة، سيكون الأوان قد فات، بينما تزداد الصين قوة كل يوم، وتزداد الولايات المتحدة ضعفا، وعليها أن تسرع.
لقد أعلنت وزارة الطاقة الأمريكية مؤخرا عن الأصل الاصطناعي لفيروس كورونا، فيما يطالب الجمهوريون بنشر نتائج التحقيق. أعتقد أنه يتم إعداد الذرائع لإلقاء اللوم على الصين في الوباء العالمي، وشيطنتها، تلي ذلك مطالبات مالية فلكية مستحيلة، تليها عقوبات في حالة الرفض. وعلى الرغم من أن كل شيء يشير إلى أنه حتى لو كان الفيروس منشأه اصطناعي، فقد تم تخليقه في المختبرات الأمريكية.
في الأيام الأخيرة، أضيفت إلى لائحة الاتهامات الأمريكية لبكين تزويد روسيا بأسلحة صينية. لا دليل على ذلك، إلا أن الدليل غير مطلوب.
تعتقد الولايات المتحدة أن الصينيين لم ينتصروا أبدا في الحروب، حتى أن مفكرهم الاستراتيجي العسكري المرموق صن تزو، يحث هو الآخر على تجنب التصعيد، ولن يتمكن الصينيون من تجاوز الأمريكيين بمجرد الإرادة والحزم.
إن تجنب الصين للمواجهة عندما ضغط دونالد ترامب على بكين في المرة الأولى، وخاصة الموقف الشائن خلال زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان، يعزز هذا الرأي.
ستنطلق الحرب بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على هيئة عقوبات واسعة النطاق، ثم سيخرج التصعيد، في رأيي، بعد ذلك عن السيطرة. وكما في حالة روسيا، ستقلل النخبة الأمريكية من استعداد العدو للرد على التصعيد بالتصعيد، لهذا فإن التمزق الكارثي للعلاقات الاقتصادية أو حتى العمل العسكري بين البلدين هو أمر لا مفر منه.