كتب الكسندر نازاروف | سقوط قره باغ يقرّب الحرب الكبرى في القوقاز
الكسندر نازاروف | كاتب وباحث روسي
حتى الآن، حددت تصرفات الأطراف في المنطقة، لا سيما روسيا، إلى حد كبير، لا المصالح الاستراتيجية، وإنما الجمود وميراث الحقبة الماضية.
الميراث الذي تطلب بعض النفقات والجهود للحفاظ عليه، في حين أن فوائده لم تكن واضحة..
إن إعادة انتخاب السياسي الموالي للغرب نيكول باشينيان رئيسا لوزراء أرمينيا، حتى بعد الهزيمة في الحرب السابقة على قره باغ، تعكس رغبة مستمرة للمواطنين الأرمن في مقايضة سيادتهم، وحتى ترابهم الوطني في محاولة لتحقيق معايير الحياة الغربية، دون العمل من أجلها عدة أجيال. أعتقد أننا يجب أن ننطلق من حقيقة أن هذا المسار سيستمر حتى يفقد مصداقيته في عيون سكان أرمينيا. وعلى أية حال، فمن المرجح أن يستغرق ذلك الأمر سنوات، ونتيجة لذلك، لن أتفاجأ بمغادرة روسيا لأرمينيا على المدى القصير.
سيؤدي هذا في النهاية إلى نوع من إبطال الميراث السوفيتي، بعدها سيحدد تصرفات الأطراف في المقام الأول العوامل الجيوسياسية طويلة المدى، وليس العوامل الثانوية. على اقل تقدير، ستتاح لروسيا الفرصة لإعادة النظر في أولوياتها.
تتحدد القيمة الجيوسياسية لدول منطقة القوقاز الثلاث بشكل شبه حصري من خلال توفيرها للاعبين من خارج المنطقة القدرة على الوصول إلى آسيا الوسطى الغنية بالموارد، فضلا عن كونها ممرا بريا بين الشمال والجنوب.
كذلك يمكن لروسيا وتركيا وإيران وأكبر اللاعبين على الساحة الدولية اعتبار جورجيا وأرمينيا وأذربيجان بمثابة أوراق مساومة في اللعب مع بعضهم البعض، إلا أن هذا عامل أقل أهمية. في الوقت نفسه، فإن بلدان القوقاز الثلاثة تحمل قيمة مختلفة فيما بينها.
ومع الأخذ في الاعتبار المواجهة الشرسة المتزايدة بين روسيا والغرب، لا يمكن ضمان وصول روسيا إلى طرق التجارة البحرية إلا من خلال الشرق الأقصى، وهو بعيد جدا عن المناطق الصناعية الرئيسية المكتظة بالسكان في الجزء الأوروبي من روسيا، أو من خلال إيران، التي تعتبر حاليا، وعلى الأرجح خلال عقود مقبلة، الحليف الطبيعي لروسيا.
يمتد الطريق الأخير على طول بحر قزوين، أو عبر خطوط السكك الحديدية عبر أذربيجان (الطريق الغربي) وكازاخستان وتركمانستان (الطريق الشرقي). وفي الوقت نفسه، فإن الطريق الغربي عبر أذربيجان أقصر مرتين ويعبر دولة واحدة فقط.
تنتهج أذربيجان، في الوقت الراهن، سياسة المناورة والحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا. إلا أنه، ومع اشتداد المواجهة بين روسيا والغرب، تتناقص فرصة أذربيجان في الحفاظ على الحياد، كما أن عودة قره باغ تقلل من أهمية روسيا بالنسبة لباكو.
ولا تتمتع جورجيا، ناهيك عن أرمينيا، بقيمة مماثلة لأذربيجان بالنسبة لروسيا من حيث ضمان التجارة الدولية.
كما يعد إنشاء ممر بري إلى روسيا أمرا مهما بالنسبة لإيران، إلا أن القلق الرئيسي يتعلق بحقيقة أن ثلثي الأذربيجانيين يعيشون في المقاطعات الشمالية الغربية لإيران، فيما يعيش الثلث فقط في أذربيجان. بمعنى أن أي زيادة في النفوذ التركي والغربي في منطقة بحر قزوين، سوف يشكل تهديدا كبيرا للأمن القومي الإيراني. وعليه، فمع وجود جورجيا محايدة أو موالية لروسيا، فإن سلامة أراضي أرمينيا وتوجهها المناهض لتركيا، التي تفصل أراضيها بين أذربيجان وتركيا، يشكل أهمية بالغة لإيران.
مع ذلك، إذا تم تأسيس أنظمة موالية للغرب في تركيا وجورجيا، فهناك احتمال كبير أن تضطر أذربيجان إلى الابتعاد عن سياسة المناورة وتصبح مؤيدة للغرب بشكل لا لبس فيه. في هذه الحالة، لن تكون أرمينيا ضرورية للغاية بالنسبة لإيران أيضا، فالممر من تركيا أو من البحر الأسود إلى بحر قزوين سوف يمر خارج أراضي أرمينيا.
من ناحية أخرى، فمن خلال هذه البلدان الثلاثة، أو بالأحرى اثنين منهم (مرة أخرى لا حاجة لأرمينيا)، تمتد خطوط أنابيب النفط والغاز من أذربيجان إلى ساحل البحر الأسود وإلى تركيا. وفي المستقبل، قد يتم ربط النفط والغاز من آسيا الوسطى بهم، إذا تمكنت تركيا و/أو الغرب من إبعاد الصين عنهم. وفي كل الأحوال فإن تركيا والغرب لديهم مثل هذا الهدف.
ويمكن لجورجيا جزئيا (إذا تم حظر تركيا أيضا)، وأذربيجان، أن تمنع وصول الغرب إلى بحر قزوين من البحر الأسود.
بالتالي فإن الدولة الرئيسية في منطقة القوقاز هي أذربيجان. والسيطرة المشتركة أو أحادية الجانب عليها توفر لروسيا وإيران إمكانية الوصول المتبادل لبعضهما البعض، وتغلق بحر قزوين أمام الغرب وتركيا.
لكن السيطرة على جورجيا لا تحل إلا واحدة من المشاكل: فهي تسد الطريق أمام الغرب إلى بحر قزوين، لكن هذا لن يحدث إلا إذا كانت تركيا وأرمينيا ليستا من الدول المناصرة للغرب.
السيطرة على أرمينيا وحدها أيضا لا تحل أيا من المشاكل لأي أحد بشكل موثوق.
واشنطن وأوروبا بشكل خاص ليست مهتمة بتقوية تركيا، ومن غير المرجح أن تدعم إنشاء ممر من تركيا إلى أذربيجان على المدى الطويل، من خلال الاستيلاء على ما يسمى بممر زانغزور في جنوب أرمينيا، والذي من شأنه أن يربط أذربيجان بجيبها ناختشيفان، وتركيا مع أذربيجان وآسيا الوسطى.
لكن الحرب من أجل هذا الممر، ووجود هذا الممر أمران مختلفان. وحتى مع وجود أردوغان في السلطة، وباستخدام طموحاته، يمكن للولايات المتحدة، لا سيما بريطانيا العظمى، إثارة أو دعم صراع عسكري حول ممر زانغزور، والذي سيتم بالتأكيد جر إيران إليه إلى صف أرمينيا، ويمكن جر روسيا إليه، وإلى صف أذربيجان يمكن جر تركيا. وستكون المكافأة الرائعة للغرب هي تدمير المثلث الروسي التركي الإيران، الذي يتعاون بنجاح في معظم الشؤون الإقليمية ويعمل تدريجيا على طرد الولايات المتحدة من بلاد الشام.
وعلى الرغم من فوز أردوغان في الانتخابات، إلا أنني لست واثقا من سطوة سلطته. فالتضخم يرتفع من جديد، والوضع الاقتصادي في بلاده يتدهور بسرعة، ما يخلق أرضا خصبة للاحتجاجات والانقلابات. وأود أن أشير هنا إلى أن السلطات الجورجية المحايدة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا أعلنت مؤخرا أن الغرب كان يستعد لانقلاب في البلاد.
وإذا وصلت القوى الموالية للغرب إلى السلطة في تركيا، فإن الأمر أكثر أهمية هو أن واشنطن ولندن ستكونان سعيدتان باستخدام تركيا كأوكرانيا وبدء حرب تركية-إيرانية-روسية، ومن غير المرجح أن تكون نتيجتها لصالح تركيا، ولكن ستخسر خلالها الدول الثلاث الكثير من الدماء والموارد. وهذا السيناريو واعد أكثر بالنسبة للغرب، كلما كانت أموره في أوكرانيا تتدهور نحو الأسوأ.
وفي حالة نشوب صراع عسكري مباشر بين روسيا وجزء من دول “الناتو” أو الكتلة ككل، أعتقد أنه سيتم فرض حصار بحري على روسيا في البحر الأسود وبحر البلطيق وبحر بارنتس، أي أن الجزء الأوروبي من روسيا سيفقد طرق التجارة الفعالة من حيث التكلفة باستثناء الطريق عبر إيران. وبالنظر إلى رد فعل موسكو على تفجير “السيل الشمالي” وغيره من الاستفزازات المماثلة، فلست متأكدا من أن الحصار سيصبح سببا لروسيا لاستخدام الأسلحة النووية على الفور. ستحاول روسيا، على الأقل في المرحلة الأولى، تنظيم طرق نقل بديلة، وبالتالي سيحاول الغرب من جانبه قطع هذه الطرق.
في ظل هذه الظروف، ستصبح أذربيجان مركزا لمصالح وجهود روسيا والغرب لبعض الوقت، والحرب من أجل السيطرة على هذا البلد ستكون محتملة للغاية على هذه الخلفية.
وفي حال تصاعد المواجهة بين الغرب وإيران، قبل أو بدلا من الهجوم على إيران من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية (دعونا لا ننسى موقف ترامب)، فإن الاستفزاز حول ممرا زانغزور يمكن أن يؤدي إلى حرب بالوكالة من الغرب ضد إيران على يد أذربيجان وتركيا، مع احتمال تورط روسيا.
بالتالي، فلا يمكن القول إن أرمينيا مهمة جدا لدول المنطقة من حيث ضمان مصالحها الاستراتيجية من ناحية، ولكن، ومن ناحية أخرى، فيوجد على أراضي أرمينيا ممر زانغزور، الذي يمكن أن يغرق المنطقة بأكملها في بحر من الدماء. ونتيجة لذلك، فإن أرمينيا مهمة في المقام الأول بالنسبة للغرب، باعتبارها فتيل القنبلة.
في هذا الصدد، من غير الممكن ألا نعقد مقارنة بين فلاديمير زيلينسكي ونيكول باشينيان، الذي يبدو هو الآخر مستعدا للتضحية ببلاده من أجل بدء صراع إقليمي كبير لمصلحة الغرب. ولا يسع المرء هنا إلا أن يتعاطف مع الأرمن في هذا الوضع، حيث من شأن الأمل في الحصول على مستوى معيشة أوروبي بمجرد تسليم نفسك للغرب أن يدمر أرمينيا، كما دمر أوكرانيا بالفعل.