الكسندر نازاروف | كاتب وباحث روسي
أعتقد أن تحرير مدينة أرتيوموفسك (باخموت الأوكرانية) ليس حدثا ذات أهمية.
بشكل عام، أعتقد أن الأحداث في ساحة المعركة بأوكرانيا يمكن أن تؤثر على المسار العام للحرب الأمريكية الروسية فقط حال حدوث سيناريو كارثي لأحد الأطراف، ما سيجبره على التحول إلى استخدام الأسلحة النووية. أما ساحة المعركة الرئيسية، والتي تحدثت عنها أكثر من مرة، هي الوضع السياسي الداخلي في الدول المنخرطة في الصراع، وبالتالي فالمهمة الرئيسية للأطراف ليست الاستيلاء على الأراضي بقدر ما هي منع زعزعة الاستقرار الاقتصادي ثم السياسي داخل البلاد، وزعزعة استقرار العدو.
ومن الواضح أنه، وبعد ضم شبه جزيرة القرم في صيف 2014، تحول بوتين إلى الدفاع الاستراتيجي، الذي استمر 8 سنوات. ورأيي المتواضع أنه في مارس 2022، تحول بوتين مرة أخرى إلى دفاع استراتيجي يمكن أن يستمر لسنوات.
ومنذ صيف عام 2022، بدأ بناء الخط الدفاعي الأساسي على خلفية تعبئة محدودة، كافية فقط للدفاع. وبالنسبة لروسيا فليس من المهم للغاية أن تكون الحدود عدة عشرات من الكيلومترات إلى الغرب أو إلى الشرق، فقد استقبلت مناطق جديدة عملاقة، يتعين هضمها، حتى تصبح هي جزءا من روسيا بلا عبء لا داعي له على بقية سكان البلاد. والقدرة على الحفاظ على الاستقرار الداخلي هي محدد أقوى بكثير، أو بالأحرى هي المحدد الذاتي للهجوم العسكري الروسي والأقوى من أي محددات عسكرية أخرى.
وهذا الجزء من أوكرانيا غير الخاضع لروسيا يتحول تدريجيا إلى منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة بلا صناعة، أي أنه لن يشكل تهديدا لروسيا. تدريجيا، وبمجرد أن تنضج الأوضاع، ربما مرة كل 5 أو 10 سنوات، ستضم روسيا جزءا آخر من أوكرانيا السابقة، وسوف نعيد النظام هناك دون إرهاق قواتنا، وبعد توقف، سيتكرر هذا مرارا وتكرارا. لكن، يجب ألا ينخفض مستوى المعيشة في روسيا، ويكون العبء معتدلا، والبلاد مستقرة.
الاستثناء الوحيد هو خط المواجهة بالقرب من دونيتسك، حيث يسمح قرب مدفعية العدو من المناطق الحضرية الكثيفة للقوات الأوكرانية بإرهاب أعداد كبيرة من المواطنين.
لذلك، تواصل القوات الروسية هجومها في منطقة دونيتسك. يجب أن نضيف إلى ذلك طموحات مؤسس مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، الذي لم يتمكن لفترة طويلة، بعد أن تولى الأمر، أن يصل إلى نهاية المهمة، على الرغم من حقيقة أن “فاغنر” كانت لفترة طويلة جدا تحصل على أفضل الإمكانيات من الجيش الروسي، وكان لديها درجة عالية من الاستقلالية.
ومع ذلك، كانت هناك أسباب موضوعية لتأخر العملية، وكانت مقاومة الجيش الأوكراني في أرتيوموفسك قوية للغاية. زيلينسكي ممثل، ويريد أن يلعب دور نابليون، البطل، والقائد العظيم. إضافة إلى ذلك، فإن الأوكرانيين تاريخيا أمة خاسرة، ولم يكن لديهم قط دولتهم الخاصة وتاريخهم الخاص. يحتاج الأوكرانيون إلى أبطال ليخلقوا أمة، هم بحاجة إلى انتصارات تاريخية، لهذا قرر زيلينسكي أن يخلق من باخموت ستالينغراد جديدة، بحيث يكون هناك ما يكتب عنه في كتب التاريخ المدرسية، وهو ما أجره على إرسال المزيد والمزيد من الاحتياطيات هناك، وعدم حساب الخسائر.
بطريقة أو بأخرى، أعتقد أن روسيا ستستمر في نقل خط المواجهة تدريجيا بعيدا عن دونيتسك، وبعد الوصول إلى مسافة آمنة، ستكون مستعدة للانتقال إلى حرب الخنادق، والتي ستستمر خلالها في سحق الجيش الأوكراني والبنى التحتية، وربما يكون حتى التجميد المؤقت للنزاع ممكنا.
وبالطبع، قد يغير الهجوم الأوكراني المفترض الخطط الروسية.
في الوقت نفسه، فنحن نرى أن كلا من الضربات الصاروخية الروسية والشكوك حول نجاح الهجوم الأوكراني المضاد تجعل القيادة الأوكرانية تتردد. من المحتمل كذلك أن يكون القائد العام للجيش الأوكراني زالوجني قد قتل أو أصيب بجروح خطيرة خلال إحدى الضربات، وربما معه جزء كبير من القيادة الأوكرانية.
يدعم التصعيد السريع لعمليات التسليم الغربية لأنواع جديدة من الأسلحة إلى أوكرانيا، بما في ذلك الطائرات والصواريخ بعيدة المدى، الافتراض بأن الغرب قد قدر فرص نجاح الهجوم الأوكراني بأنها منخفضة، وبالتالي لن يكون هناك هجوم على الأرجح حتى اكتمال توريد الأسلحة اللازمة.
لقد كان هروب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان نتيجة للحاجة إلى التركيز على الحرب المخطط لها في أوكرانيا. والآن يتطور وضع مماثل في أوكرانيا، فواشنطن في عجلة من أمرها، وفي العام المقبل تحتاج الولايات المتحدة إلى التركيز على انتخاباتها وعلى الصين.
لا يزال هناك 5 أشهر من الطقس الدافئ والجاف، المناسب للهجوم، ويمكن لأوكرانيا أن تنتظر شهرين أو ثلاثة أشهر أخرى. بدءا من سبتمبر، ستنخفض بسرعة فرص نجاح الهجوم الأوكراني واسع النطاق. والأكثر من ذلك هو أنه في مايو ويونيو، وبدءا من سبتمبر، هناك فرصة كبيرة في أن يضعف هجوم أوكرانيا الفاشل مواقفها ومعها الغرب.
وبالتالي، فلدى روسيا شهر أو شهرين لإضعاف الجيش الأوكراني بضربات صاروخية وجوية لدرجة أن محاولة شن هجوم أوكرانيا تصبح محكوما عليها بالفشل من البداية، وحينها قد لا يحدث الهجوم.
في هذه الحالة، وكذلك في حالة فشل الهجوم الأوكراني، أتوقع تجميد الأعمال العسكرية أو حتى الاستئناف المحتمل للمفاوضات البطيئة.
هناك سبب مهم آخر لسعي روسيا إلى تجميد الصراع. فمن المرجح أن يؤدي تصعيد الحرب في أوكرانيا إلى جر أوروبا إلى الصراع، وهو ما سيجبرها حتما على الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في نزاعها العسكري مع الصين. وإبعاد أوروبا عن الصراع العسكري في أوكرانيا يزيد من فرص عدم انضمامها إلى الصراع الأمريكي الصيني، ما يعني فرصا أكبر للصين وروسيا في مواجهة الأنغلوساكسون.
لهذا السبب نرى الجهود الحثيثة لبريطانيا والتي تقف وراءها الولايات المتحدة الأمريكية لرفع مستوى الصراع، ودفع القيادة الروسية إلى مستوى أعلى من التصعيد، وهو تحديدا ما يفسر ضبط النفس من قبل روسيا.
على أي حال، فإن أوكرانيا ليست سوى واحدة من معارك الحرب العالمية الثالثة التي بدأت، ونتائج هذه المعركة لن يتم تحديدها سواء في أرتيوموفسك أو حتى في أوكرانيا. كانت باخموت مهمة كرمز، خاصة بالنسبة لأوكرانيا، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في أهميته.