العميد د . امين حطيط | استاذ جامعي – باحث استراتيجي
من غير تمهيد او اتصال او تنسيق مع لبنان سرّبت الإدارة الأميركية الى الإعلام ومن غير إعلان رسمي بأنّ هوكشتين المبعوث الأميركي الى لبنان و»إسرائيل» لرعاية المفاوضات غير المباشرة التي أطلقت بينهما في الناقورة في العام الماضي لحلّ النزاع حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أنّ هذا المبعوث في طريقه الى المنطقة، ترافق ذلك مع إعلان من وزارة الطاقة لدى العدو «الإسرائيلي» بأنّ المفاوضات حول الحدود البحرية ستُستأنف في الأسبوع المقبل دون ان يحدّد كيف ستُستأنف وبأيّة صيغة. وفي هذه الأثناء كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يستقبل ممثلة الأمم المتحدة في لبنان لبحث موضوع يتصل بقوات اليونيفيل وأدائها وردود الفعل الجنوبيّة عليه، ويبلغها انّ لبنان جاهز في أيّ لحظة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة مع «إسرائيل» لترسيم حدوده البحرية.
طرحت هذه الوقائع جملة من الأسئلة حول موضوع عودة لبنان الى طاولة التفاوض التي غادرها «الإسرائيلي» بدعم أميركي رفضاً منه للطرح الذي تقدّم به الوفد اللبناني حول ما يراه حقاً للبنان في حدود منطقته الاقتصادية في ضلعها الجنوبي. والمعروف هنا انّ الوفد اللبناني يرفض قبول الخط المسمّى خط النقطة 1 لأنه لا يراعي أحكام قانون البحار كما انه لا يحترم أحكام اتفاقية بوليه نيوكمب للعام 1923 التي رسمت بموجبها حدود لبنان مع فلسطين المحتلة تلك الحدود المؤكد عليها باتفاقية الهدنة للعام 1949. كما انّ هذا الخط لا يتصل بالبر كما تفرض قواعد الترسيم القانونية، كما انّ الوفد اللبناني لا يتمسك بالخط المسمّى خط النقطة 23 الذي اعتمد في المرسوم 6433 نظراً الى انّ هذا الخط واهن لا يمكن الدفاع عنه لأنه أيضاً لا يستجيب لقانون البحار ولا يحترم حقوق لبنان المكرّسة باتفاقية ترسيم الحدود البرية واتفاقية الهدنة فضلاً عن عدم أخذه بما توصل إليه الفقه والاجتهاد الدولي حول ترسيم الحدود البحرية.
أما الخط الذي يرى الوفد اللبناني أنه الخط الذي تمليه أحكام قانون البحار والمستند الى أحكام اتفاقية الهدنة وبوليه نيوكمب فهو الخط المسمّى خط النقطة 29 الذي يراه الوفد أنه الخط الصحيح ويؤيده في ذلك معظم الخبراء ذوي الاختصاص لأنه يتوافق مع اجتهاد محكمة العدل الدولية الأخير الذي اتخذ في قضية مماثلة للحال اللبنانية لجهة مدى تأثير الجزر على ترسيم الحدود البحرية واشتراط توفر عناصر مادية وموضوعية في الكتلة من اليابسة حتى يصحّ وصفها بالجزيرة المؤثرة، وهي عناصر تفتقر اليها الصخور التي يسمّيها العدو تجاوزاً «جزيرة تخيلت» التي لا حياة فيها او عليها، وهي تفتقر الى العناصر التي تجعلها قابلة للسكن والحياة عليها، بما يكسبها صفة جزيرة.
في ظلّ هذا الواقع ومع تناقل الإعلام لتصدّع في الموقف الرسمي اللبناني حول أيّ من الخطوط ينبغي التمسك به والتفاوض على أساسه، ومع التسريب المقصود من الجانب «الإسرائيلي» الأميركي الموحي بقرب استئناف المفاوضات دون ان يكون هناك اتصال او تنسيق مع الجانب اللبناني قبل التسريب والإعلان، نرى أنّ أميركا و»إسرائيل» اللتين أنذرتا شركات التنقيب الأجنبية بوجوب عدم التنقيب في لبنان الى أن يوقع على ترسيم الحدود البحرية تريدان استغلال وضع لبنان الذي يتعرّض في هذه الأيام لضغط وحصار أميركي غير معلن، وقطيعة وتهديد وإنذار خليجي ترجم بلائحة الشروط الـ 12 التي تفهم بأنها بمثابة دعوة الى حرب أهلية من اجل تجريد المقاومة من سلاحها، وفقاً لما تطلبه «إسرائيل» وأميركا، انهما أرادتا استغلال وضع سلبي يمرّ به لبنان يتمثل في ضائقة كارثية نتيجة الفساد الداخلي والحصار الخارجي اللذين تكاملا لدفع لبنان الى انهيار غير مسبوق على الصعيد المالي والاقتصادي والاجتماعي وينذر بانهيار أمني يحذر البعض من وقوعه بشكل يترجم حرباً أهلية، أن لبنان الذي هذا هو حاله بات يُغري خصومه وأعداءه بالضغط عليه وحمله على التنازل عن حقوقه ظناً من الآخرين بأنّ لبنان الواهن الضعيف كما يصفونه، يعتقدون انه بات جاهزاً للاستسلام والتنازل. فهل هذا حقيقة أم أنهم لمسوا إصراراً لبنانياً على عدم التنازل فتراجعوا؟
اول ما ينبغي التوقف عنده في الردّ على السؤال هذا هو موقف رئيس الجمهورية اللبنانية العماد عون الذي هو المرجعية الدستورية الحصرية المنوط بها التفاوض والوصول الى اتفاق يعرضه لاحقاً على مجلس الوزراء وتالياً على مجلس النواب عند الاقتضاء. وقد اختصر الرئيس الموقف بعبارة قاطعة يردّدها دائماً بأنّ لبنان جاهز للتفاوض غير المباشر، وانه «متمسك بحقوقه في أرضه ومياهه وثرواته وسيادته عليها»، وحريص على إنجاز الاتفاق بما يمكنه من استثمار ثرواته النفطية التي هو بأمسّ الحاجة اليها الآن. وانطلاقاً من هذا الموقف المرجعي الأساسي نرى انّ على لبنان أن يظهر بأنه ليس من الضعف بما يغري عدوّه لطلب التنازل، وأنه ليس مستعجلاً للتفريط بحقوقه وجعل الآخر يستغلّ ضيق ذات اليد لديه، وعليه نرى انّ من مصلحة لبنان الالتزام بما يلي:
ـ التمسك بصيغة المفاوضات غير المباشرة التي انطلقت في الناقورة واستئناف التفاوض من حيث توقف وبالوفد ذاته، وإذا كان العدو يستنكف عن ذلك فإنّ لبنان يمكنه مناقشة الطرح الآخر للتوصل الى صيغة تفاوضية توافقية جديدة بإرادة الطرفين دون أن يملي أحد على الآخر صيغة هو يضعها.
ـ التمسك بالمرجعيات القانونية التي بمقتضاها تحدّد الحدود البحرية بين الدول. وفي هذا النطاق لا يمكن الا التمسك بقانون البحار 1982 وباتفاقية بوليه نيوكمب 1923 واتفاقية الهدنة 1949 وباجتهادات القضاء الدولي المستقرّ حتى العام 2021.
ـ التقيّد بمبدأ التعامل بالمثل، كما أنّ «إسرائيل» أبلغت الشركات الأجنبية ذات العلاقة التعاقدية مع لبنان بمحاذير التنقيب فيه وهدّدتها إذا فعلت، فعلى لبنان ان يبلغ شركات النفط العاملة لمصلحة «إسرائيل» بوجوب التوقف عن العمل في كامل المنطقة موضوع النزاع وهي المنطقة الواقعة بين الخط 1 والخط 29. ويمكن ان يكون ذلك برسالة عادية من وزارة الأشغال او الخارجية او الموارد المائية والكهربائية الى الشركات أو برسالة من الخارجية الى الأمم المتحدة او من مجلس الوزراء الى كلّ المعنيين.
ـ إطلاق عملية البحث والتنقيب في لبنان خارج المنطقة المتنازع عليها والاستغناء عن خدمات الشركات التي لا تستجيب للطلب هذا.