العميد الركن د . امين حطيط | باحث استراتيجي واستاذ جامعي
عندما خسر الغرب حربه الكونية على سورية وعجز عن تفكيكها لإعادة تركيبها بما يناسب المشروع الصهيوأميركي الذي يخدم نظرية الأحادية القطبية العالمية بقيادة أميركا، اتجه الى اعتماد استراتيجية بديلة تقضي بإطالة أمد الصراع في سورية لمنعها من استثمار إنجازاتها والحؤول دون عودتها الى حياتها الطبيعية من غير مسّ بوحدة أراضيها وسيادتها التامة عليها، وتوجيه ضربة استراتيجية كبرى لروسيا لمنعها من استثمار الإنجاز في سورية وحرمانها من موقعها في العلاقات الدولية والحؤول دون اكتمال ظروف تشكل نظام عالمي جديد قائم على التعددية في الأقطاب والتحالفات والتفاهمات والمجموعات الدولية الاستراتيجية.
لقد انصرف الغرب منذ العام 2019 ـ تاريخ تأكد هزيمته في سورية الى وضع الخطط الهادفة لتحقيق ما يريد في الميدان الشرق أوسطي وعلى الحدود مع روسيا لمحاصرتها ثم إسقاطها وشطبها من المعادلة الدولية وكانت استراتيجية الاحتواء والتطويق هي المسلك المفتوح أمام الغرب بقيادة أميركية لتحقيق الغرض، ولهذا كانت عملية أذربيجان ضدّ أرمينيا حليفة روسيا وكان مشروع الثورة الملونة في كازاخستان ضدّ النظام الموالي لموسكو والمنتظم معها في منظمة الأمن الجماعي، ثم كانت السلوكيات الأخطر والأدهى من حيث الاستفزاز والاستدراج في أوكرانيا التي تحوّلت بشكل واضح الى رأس رمح في الخاصرة لا بل في القلب الروسي.
فهمت روسيا مبكراً وعميقاً ما يخطط لها وقرأت جيداً أهداف الغرب بقيادة أميركية ضدّها ولم تهمل العبارات الغربية التي تتضمّن علانية او ضمناً مفهوم العداء الغربي لروسيا سواء في ذلك على صعيد الناتو أو على صعيد دول الغرب الكبرى التي جاهرت بأنّ «روسيا عدو»، لكنها التزمت في الردّ أقصى درجات ضبط النفس وابتلاع المشاعر السلبية مع الاستمرار في تطوير العلاقات الاقتصادية التي فيها مصالح للطرفين بشكل متبادل وشبه متوازن لا بل فيها أرجحية لصالح روسيا. لكنها في الوقت ذاته اتجهت الى بناء المجموعة الاستراتيجية الدولية التي تتقاطع مع أطرافها في السعي لإقامة التوازن الدولي والنظام التعددي على أنقاض النظام العالمي الأحادي الذي تعمل أميركا لإرسائه وتثبيته، فكان التطوير الهامّ للعلاقة مع الصين وايران وإقامة المثلث الاستراتيجي المناهض للهيمنة والسيطرة الغربية على العالم المثلث الذي شكل إنجازاً استراتيجياً للدول الثلاث أرفدته روسيا بإنجازها في أذربيجان وكازاخستان حيث أفشلت مهمة تطويقها من الجنوب والجنوب الغربي وراكمت به انتصاراتها الى جانب محور المقاومة في سورية.
بيد انّ الغرب بقيادة أميركية وبوقوفه على ما تقدّم، شعر باختلال في المشهد الدولي والاستراتيجي لصالح روسيا وحلفائها وقرّر جرّ روسيا الى ميدان يستنزفها فيه لسنوات تنتهي بشطب روسيا من المعادلة الدولية، ولما كان الطوق الأميركي كسر في أذربيجان وكازاخستان، وانّ الميدان السوري مهما تعاظم أمره لا يشكل مدخلاً كافياً لإدارة حرب استنزاف ضدّ روسيا حتى ولو نجح الأمر في ان تكون العمليات فيه كافية لاستنزاف سورية وفقاً للتقدير الغربي فقد وقع الاختيار على أوكرانيا لتكون ميدان الاستنزاف القاتل لروسيا، استنزاف تنفذه قوى عسكرية وشبه عسكرية وميليشيات وجماعات إرهابية لا تتضمّن مباشرة في صفوفها قطعات من الجيوش النظامية الغربية المنضوية او غير المنضوية في الـناتو، استنزاف تخدمه وتواكبه حرب شاملة يشنها الغرب على روسيا من كلّ الأبواب السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والرياضية، حرب تشمل كلّ شيء باستثناء العمل العسكري القتالي المباشر الذي تقوم به الجيوش النظامية.
لقد رأى الغرب في ساحة المعركة في أوكرانيا منفذه الأخير لتعويض ما فاته او ما خسره او تعذر عليه تحقيقه في مواجهة أعدائه في العقود الثلاثة الماضية، وخاصة في العقد الأخير الذي تبلورت فيه أكثر وجوه خسائر الغرب وتقدّم خصومه، ولذلك كانت أميركا ملحة ومُصرّة على تفجير الوضع بوجه روسيا واستدراجها الى الميدان الأوكراني، حتى أنها وصلت الى درجة وضع الخطط التنفيذية لاجتياح إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا اليها قبل ٨ سنوات وصولاً الى الاستعداد للتحرّش بروسيا داخل أراضيها.
في مواجهة الإصرار الغربي قرّرت روسيا الدفاع لثني الغرب عن خطته بكلّ السبل، بدءاً بالتمسك باتفاقيتي مينسك ١ و ٢ اللتين تضمنان أمن السكان في إقليم دونباس، ثم بتحشيد ١٠٠ ألف عسكري على الحدود لإظهار القوة وحمل الخصم على التراجع، ثم كشف أسرار السلوكيات الغربية العدائية ضدّ روسيا والسكان من أصل روسي، إلا أنّ كلّ ذلك لم ينجح في ثني الغرب عن خطته العدائية وإصراره على جرّ روسيا الى حرب استنزاف وتدمير شاملة، حيث اضطرت روسيا إليها في نهاية المطاف فحرّكت قواتها غرباً تحت عنوان «عملية عسكرية خاصة» لحماية الأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس عبر الحدود،
والآن وبعد أسبوعين من انطلاق العملية التي ظنّ الغرب في البدء وبخاصة أميركا انه نجح في استدراج موسكو اليها، وانّ الفخ أطبق على الدب الروسي وفقاً لما يشتهي الغرب، بعد أسبوعين من العمليات العسكرية يتبيّن للغرب سوء تقديره ويكتشف انّ الفخ المزعوم لا فعالية له بالشكل المرتجى، لا بل انّ الآثار السلبية للمواجهة القائمة تطال الغرب عامة وأوروبا خاصة بأضرار تفوق ما كانوا يتوقعون إنزاله بروسيا، وتنكشف مواطن الضعف الغربي في أكثر من عنوان نذكر منها:
أولاً: خشية الناتو بقيادة أميركا من المواجهة العسكرية المباشرة مع الجيش الروسي ما حمل الناتو على تجنب التدخل المباشر والإعلان صباح مساء انّ أوكرانيا ليست جزءاً من الناتو الذي هو «حلف دفاعي لا يبادر الى هجوم» بزعمهم، وهم في الحقيقة يخشون مواجهة القوة النووية الثانية في العالم، وكان للإنذار الروسي بعد تجهيز قوات الردع الاستراتيجي أثره الكافي في هذا المجال،
ثانياً: الارتداد السلبي للحرب الاقتصادية علي الغرب وخاصة أوروبا في مجال الطاقة وظهور وهن الاقتصاد الأوروبي المعتمد علي الغاز والنفط الروسي ما جعل الحرب الاقتصادية ذات مفعول بالغ التأثير على أوروبا ما ينذر بسقوط الاقتصاد الأوروبي لا بل بتدميره في بضعة شهور لا تتعدّى الستة ان لم يوجد حلّ لأزمة الطاقة ولا يبدو انّ في الأفق حلاً.
ثالثاً العجز عن تنظيم مقاومة وطنية أوكرانية فاعلة والاضطرار الى الاستعانة بمرتزقة الخارج ما سيحول البوابة الشرقية لأوروبا ومن أوكرانيا بالذات الى مجمع للإرهاب العالمي ما سيرتدّ أيضاً على الامن الأوربي بوجهيه القومي والفردي وينعكس سلباً على دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص.
رابعاً: تفلت روسيا من مكامن استهدافها بحرب الاستنزاف، ما يجعل الغرب يتحمّل من أعباء هذه الحرب مع طول المدة فوق ما يتحمّله المستهدف خاصة أننا نسجل لروسيا تعاملها الذكي مع الموضوع كما يلي:
ـ اعتمادها استراتيجية الضغط المتدرّج الصاعد بدل استراتيجية السيطرة والاحتلال،
ـ استعمالها قدراً لا يتجاوز ١/١٣ من مجمل قدراتها العسكرية بحيث تغدو العمليات العسكرية في أوكرانيا بمثابة مناورات بسيطة تسطيع القيادة إبدال القوى فيها شهرياً او مرة في الشهرين.
ـ تجنب الدخول الكثيف الى المدن وخوض حرب الشوارع.
ـ تجنب الانتشار والانفلاش العسكري الواسع الذي يتيح للإرهاب فرص الاستهداف السهل.
ـ الأداء الإنساني الراقي مع السكان المدنيين وتجنّب المسّ بهم ما يقلبهم الى خانة العداء.
ـ الاعتماد المكثف علي أسلحة عالية الدقة في تدمير الأهداف العسكرية والاستراتيجية دون المسّ بالسكان والتقيّد المتقن بقاعدة التناسب والضرورة المعتمدة في القانون الدولي الإنساني.
ـ وأخيراً عدم العمل تحت ضغط الوقت لا بل استعمال المناورة المتقلبة بين الشدة والاسترخاء وفتح الممرات الإنسانية لتحييد السكان وخدمة لاستراتيجية الضغط.
لكلّ ما تقدّم نستطيع القول بأنّ روسيا عرفت متى تطلق عمليتها لتجعلها عملاً عسكرياً استباقياً في معرض الدفاع وعرفت كيف تتملص من فخاخ العدو وعرفت كيف تناور في الميدان وعلى المسرح الاستراتيجي العام، وبالتالي عرفت كيف تستعمل أوراقها لتكتب نصرها بقدم ثابتة ونفس واثقة بقدراتها.