العميد الركن د . امين حطيط | باحث استراتيجي واستاذ جامعي
في غمرة لقاءات واجتماعات ونشاطات إقليمية هدفت إلى ترسيخ أمن «إسرائيل» وتعزيز اقتصادها ضرب الشعب الفلسطينيّ ضرباته الموجعة التي جاءت في سلسلة من حلقات ثلاث تمثلت في ٣ عمليات بطولية اقتحامية شبه استشهادية توزّعت على أرض فلسطين المحتلة منذ العام ١٩٤٨ من جنوبها حيث بئر السبع كانت العملية الأولى في النقب، الى الوسط والشمال حيث نفذت العملية الثانية وهي عملية الخضيرة قرب حيفا، ثم كانت الثالثة في تل أبيب (تل الربيع) وهي التي كانت الأشدّ قسوة على العدو، والتي راكمت خسائره حتى بلغت حصيلتها في العمليات الثلاث ١١ قتيلاً سقطوا بيد فلسطينية مقاومة في أقلّ من عشرة أيام.
لقد شكلت سلسلة العمليات الفلسطينية المقاومة في مكانها وزمانها وطريقة تنفيذها الردّ السريع والفاعل والموجع على سلسلة الاجتماعات الإقليمية التي انعقدت تحت عناوين ذات طابع أمني واقتصادي وسياسي واستراتيجي، تصبّ كلها في مواجهة المقاومة ومحور المقاومة بكلّ مكوّناته وتجاهر بأنها ضدّ إيران وهي في الحقيقة تأتي لخدمة «إسرائيل» من أجل توفير الأمن لها وتنمية اقتصادها وطي صفحة اغتصابها لفلسطين عبر الاندماج بالمنطقة ثم ارتقائها لتكون المكوّن القائد لها.
بيد أنّ العمليات الفدائية البطولية تمّت بشكل يمكن المراقب والمتابع من القول بأنّ السعي «الإسرائيلي» هذا لن يحقق الأهداف المنشودة لـ «إسرائيل» وبأنّ اتفاقيات السلام المزعوم التي بدأت بكامب دافيد ووصلت الى اتفاقيات ابراهام مع توقيع ٦ دول عربية اتفاقات للصلح والتعاون مع «إسرائيل»، انّ كلّ ذلك لن يقود الى طمس القضية الفلسطينية ولن يحقق السلام في المنطقة مع وجود شعب مغتصبة أرضه معطلة حقوقه. ومن هنا نقف على أهمية تلك العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية التي يمارسها الشعب الفلسطيني ضدّ المحتلّ الصهيوني، المقاومة التي فرضت نفسها بأنها الطريق الحقيقي والوحيد الناجع لمنع حجب حقيقة الاحتلال أولاً ولاستعادة الحقوق قبل أيّ حديث عن سلام.
وفي تحليل للعمليات الثلاث في ماهيتها وطبيعتها نجد أنّ مرحلة جديدة في مواجهة العدو «الإسرائيلي» بدأت وفقاً لاستراتيجية مضمونها الإطاحة بالأمن «الإسرائيلي» من مزاياها:
ـ نفذت العمليات على الأرض المحتلة في العام ١٩٤٨ ولهذا الأمر أهمية ودلالة بالغة تعني بكلّ بساطة أنّ محاولة تجزئة القضية الفلسطينية والتسليم بأنّ هناك أرضاً باتت خارج النقاش هي محاولة ساقطة. حيث لا تنازل عن أيّ شبر من فلسطين التاريخية من البحر المتوسط الى نهر الأردن،
ـ انّ الأمن الذي تسعى اليه «إسرائيل» والذي تعتبره الأساس الصلب في كلّ سياساتها واستراتيجيتها وتبذل في سبيله الغالي والنفيس، لن يتحقق في ظلّ حرمان الفلسطينيين من حقوقهم؛ وبالتالي فإنّ أوّل نتيجة لهذه العمليات تكون بتحويل الكيان الصهيوني الى كيان يفتقد الى الأمن. ونذكر بأنّ مثل هذه العبارة أيّ عبارة «الأمن المفقود» تعني لـ «إسرائيل» ببساطة انها أمام كارثة فعلية و»مستقبل مجهول وميؤوس منه»، لأنّ هناك اقتراناً وتلازماً في «إسرائيل» بين عبارات «الأمن المفقود» و»المصير المحتوم» و»المستقبل الأسود».
ـ أظهرت العمليات الفلسطينية الثلاث مدى الوهن والضعف في البنية الأمنية «الإسرائيلية» خاصة على الأرض التي احتلت في العام ١٩٤٨ ما ستكون له تداعيات خطيرة على أكثر من صعيد، فمن جهة فإنّ هذا الوهن سيدفع شرائح صهيونية كبيرة الى الرحيل بعد فقدان الثقة بأجهزة الأمن والمستقبل «الإسرائيلي» وتحققها من عجز الدولة عن توفير الأمن المطلوب. ومن جهة ثانية الضغط على الحكومة لاتخاذ تدابير أمنية إضافية سيكون لها تأثير مزدوج فمن جهة ستكبّد الدولة أعباء ونفقات إضافية بدأت تظهر من خلال استدعاء مزيد من القوى لنشرها في المدن وعلى الخط الأخضر، ومن جهة ثانية التضييق على السكان في حركاتهم وتنقلاتهم وحياتهم الطبيعية بحيث تعقد هذه التدابير حياتهم.
ـ أظهر المقاومون انّ عملياتهم بطبيعتها الجديدة هي من قبيل الأعمال التي يصعب كشفها في مراحل التخطيط والإعداد والتهيئة ثم أنها من العمليات التي يستحيل إفشالها أثناء التنفيذ فهي عمليات تنفذ بخلايا صغيرة لا تتجاوز الشخص أو الشخصين، ثم أنها لا تكتشف إلا بعد البدء بالتنفيذ وإحداث الخسائر وأخيراً لا يكون المقاوم مهتماً لمصيره بعد التنفيذ حتى ولو كانت الشهادة هي نهاية العملية.
ـ أما مفاعيل العمليات ذات الطبيعة الخاصة كما أشرنا، فإنّ من شأنها أن تزرع الرعب في نفوس أفراد المجتمع الصهيوني وتؤثر عليهم في حركتهم وتنقلاتهم حيث لن يعرف الواحد منهم متى سيفاجأ بمقاوم يطلق عليه النار ما سيولد كابوساً أمنياً لا يمكن معالجته من قبل الحكومة وأجهزتها الأمنية.
ـ أكدت العمليات الفلسطينية الثلاث انّ المسار التطبيعي «الإسرائيلي» مع دول عربية تخطت إرادات شعوبها وتنازلت عن فلسطين، لن يحقق أهدافه ولن يطمس القضية الفلسطينية ولن يجلب الأمن لـ «إسرائيل». وإذا كانت الأخيرة تطمح من التطبيع الاندماج في المنطقة وقيادتها مع توفير أقصى درجات الأمن والرفاه لشعبها فإنّ عمليات من قبيل مسلسل آذار ٢٠٢٢ من شأنها أن تنسف كلّ الأحلام وتؤكد حقيقة واحدة هي ان «لا أمن لمحتلّ»، وتكتب نتيجة مؤكدة هي ان «لا بقاء لمحتلّ».
أما في الخيارات فإن “إسرائيل” لن يكون لديها الكثير منها لمواجهة هذا النوع من العمليات الخاصة وهي على نوعين أمنية واستراتيجية:
فمن جهة أولى فإنّ الخيارات الأمنية محدودة لن تتعدّى عمليات القمع الوحشي الذي اعتادت “إسرائيل” على تنفيذها بحق الشعب الفلسطيني وهي لم تجلب لها إلا المزيد من السخط والغضب وقد تلجأ الى نشر المزيد من قوات الأمن كما بدأت تنفذ وهو خيار قلنا إنه محدود الفعالية، أما الثالث وهو الأخطر فيتمثل كما بدأت الأصوات الرسميّة وغير الرسميّة تتعالى مطالبة بتفويض المستوطنين بتأمين حمايتهم الذاتية وحمل السلاح بشكل دائم وهذا ما سيؤكد الطبيعة العسكرية للمجتمع الصهيوني ويسهّل الجريمة الفردية وهو في كلّ الأحوال أمر لن يكون في مصلحة الكيان وما يسعى إليه من سلم أهلي يحفظ أمن المواطنين وقدرتهم على الشعور بالأمان. يبقى الخيار الأمني الآخر فيكمن في إغلاق الخط الأخضر كلياً بوجه الفلسطينيين وهو خيار فاشل مع تحرك فلسطينيي الأرض المحتلة ١٩٤٨.
وتبقى الخيارات الثانية وهي ذات الطبيعة الاستراتيجية والسياسية والتي فيها ترحيل العرب عن أرض ١٩٤٨ وهو خيار مستحيل التنفيذ الآن في ظلّ الظروف القائمة؛ أما خيار الحلّ السلمي وتسليم “إسرائيل” بحقوق الفلسطينيين فإننا لا نراه على طاولة “إسرائيل” التي تتصرف بفكر عدوانيّ اغتصابيّ يناقضه…
وهكذا نرى بأنّ هذا النوع من العمليات أحدث هزة كبيرة في الكيان الصهيوني ما أدخله في الإرباك والرعب، ولذا لا نرى بداً من استمرار هذه العمليات النوعية البطولية الاستشهادية حتى نشاهد قوافل الصهاينة يستعدّون للرحيل عن فلسطين دون أن ينتظروا الحرب الشاملة الكبرى التي قد لا تقع… ففلسطين لن تحرّرها إلا المقاومة، وها هي المقاومة عرفت أين تضرب وكيف تضرب وكيف تحرم الصهاينة من الأمن وتكتب النهاية الحتميّة لـ “إسرائيل”.