العميد الركن د . امين حطيط | استاذ جامعي – باحث استراتيجي
وفقا لما هو مخطط تمكنت روسيا من خلال عمليتها الخاصة في أوكرانيا من السيطرة على مركز الثقل النوعي الاستراتيجي الاوكراني في جنوبي شرقي البلاد وأفقدت أوكرانيا كنزاً استراتيجياً متعدد المهام والخصائص التي فيها العسكري والجغرافي والاقتصادي والتجاري، عنيت بها المدينة – المرفأ الهام ماريوبول التي تشكل لأوكرانيا منجماً من الثروات ورئتها التجارية البحرية على بحر ازوف والبحر الأسود.
لكن الإنجاز العسكري والاستراتيجي الروسي في ماريوبول الذي أعلنت القيادة الروسية عن تنفيذه بقي غير مكتمل بوجود جماعات مسلحة تديرها كييف وترفض استسلامها وتأمرها باستمرار التحصّن في مصنع «ازوف ستيل» الشهير على مساحة مبنية وغير مبنية تلامس الـ ٤ كلم٢ يتحصّن فيها ما يراوح بين 2200 و2500 مقاتل من الوحدات الأوكرانية العسكرية وأهمّها «كتيبة أزوف» التي تضمّ النازيين الجدد والقوميين واليمنيين المتطرفين المشهورين بشراستهم وبعدائهم لروسيا. وتشير المعلومات والتسريبات أيضاً إلى أنّ هناك كمّاً لا بأس به من قوات الناتو خاصة من أميركا وبريطانيا وفرنسا يعملون مع هذه الوحدات بصفة خبراء عسكريين أو مستشارين في غرف العمليات أو حتى قادة ميدانيين في خنادق القتال.
لقد أدرجت روسيا ماريوبول في لائحة أهداف المرحلة الأولى من العملية باعتبارها هدفاً مركزياً يخدم الإمساك به الخطة الاستراتيجية التي اعتمدت في هذه العملية والمتمثلة في «الضغط المتواصل والمتدرّج والتصاعدي» الذي يعوّل عليه لحمل أوكرانيا على القبول بتفاوض يستجيب لمتطلبات الأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص على جانبي الحدود بين الدولتين. فسقوط ماريوبول بيد القوات الروسية له كما أشرنا مفاعيل عسكرية واقتصادية وتجارية مؤلمة لحكومة كييف، التي هي أيضاً تخضع للإملاءات الغربية الناتوية خاصة الأميركية التي لا تتقبل فكرة انتصار روسيا هناك وخضوع أوكرانيا لها او استجابة حكومة كييف لشروطها.
ومن الناحية العسكرية لا يكون مريحاً للقوات الروسية الانطلاق في تنفيذ المرحلة الثانية من العملية قبل اكتمال السيطرة على ماريوبول من غير أن يكون في هذه السيطرة أي شائبة او أي ثغرة يمكن ان تنفذ منها القوات المحاصرة وتشوّه الإنجاز العسكري الاستراتيجي الضخم المتمثل في الإمساك التامّ بهذه المنطقة، ولذلك تحاول روسيا المناورة للانتهاء من هذه المعضلة بالحدّ الأدنى من التضحيات حتى ولو استلزم الأمر بعض الوقت الإضافي.
أما القيادة الأوكرانية ورغم أنه من الوجهة العسكرية لم يعد لها أمل معتبر باستنقاذ المدينة او البقاء في أيّ جيب فيها بشكل فاعل فإنها تحت ضغط غربي فإنها كما يبدو قررت «الصمود حتى الموت» في مصنع «أزوف ستيل» مؤمّلة من هذا القرار تحقيق فئتين من الأهداف الأولى تتعلق بالناتو ومضمونها الحؤول دون افتضاح أمر التدخل القتالي الميداني للناتو في أوكرانيا من خلال إلقاء القبض على من تقدّم ذكر وجودهم تحت عناوين خبراء ومستشارين والفئة الثانية من الأهداف عسكرية وتشمل واحداً او أكثر مما يلي:
ـ عرقلة تقدم القوات الروسية غرباً وشمالاً وتأخير إطلاقها للمرحلة الثانية من العملية الخاصة وكسب الوقت ما أمكن في مواجهة القوات المهاجمة.
ـ إجبار القوات الروسية في حال أرادت المهاجمة والتطهير أن تختار بين حلين أولهما مهاجمة التحصينات والقتال في ظروف صعبة قد تؤدي الي إيقاع خسائر فادحة في صفوف المهاجمين، وهو أمر يجب ان لا تتقبّله القيادة الروسية والثاني تدمير المنطقة باعتماد الأرض المحروقة ونظرية الضاحية الإسرائيلية مع ما لهذا الحل من سلبيات ترتد على روسيا باتهامها بأنها ترتكب جرائم حرب وما شابهها فضلاً عن الكلفة العالية من الذخائر لتنفيذ هذا الحل.
ـ فرض محاصرة المكان دون دخوله مع ما يستتبع ذلك من تخصيص وحدات خاصة لفرض الحصار وتضييق الطوق بشكل ما تدرج مع تجنب الاشتباك وقتال الاماكن المبنية والمراهنة على نفاذ الذخيرة والمؤن وعلى العامل النفسي والتسرب المتدرّج.
بيد أنّ روسيا وبين الخيارات المتاحة اتجهت الى الحل الأقل سوءا وهو حل مركب من عدة أمور. هذا ما يستفاد من الاعلان الروسي وبلسان الرئيس بوتين شخصياً بأنّ روسيا سيطرت على المدينة وامتنعت عن اقتحام المصنع الآن تجنباً للخسائر في صفوف قواتها وهو تدبير نراه في موقعه العسكري والاستراتيجي السليم، ولذلك يبدو أنّ روسيا ستتعامل مع الوضع وفقاً لخطة مركبة من الحصار مع التضييق المتدرج للطوق مترافقاً مع القصف المدفعي الذي من شأنه إحداث تدمير مدروس وإنهاك لمعنويات الخصم وفتح ممرات تبقيها تحت السيطرة لتمكين مَن يشاء الاستسلام ومع تأخير عملية الاقتحام وعدم تنفيذها إلا في المراحل الأخيرة بعد أن يكون الحصار والقصف فعلا فعلهما ومهّدا الطريق لاقتحام محدود الخسائر، خطة تنفذ بالموازاة والتزامن مع إطلاق المرحلة الثانية من العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
فروسيا التي لمست أنّ الضغوط التي تمّت منذ بدء العملية حققت من الوجهة العسكرية أهدافها وأرخت بثقلها على الوضع العسكري والسياسي الأوكراني إلا أنها لم تبلغ المستوى الذي يدفع حكومة كييف الى الاستجابة للمتطلبات الروسية، ولذلك فإنها ستكون مضطرة للمتابعة لأنها لا يمكنها التراجع أو التوقف وستجد نفسها مضطرة لتطوير عمليتها وإطلاق مرحلتها الثانية لرفع مستوى الضغوط دون الانزلاق الى حرب استنزاف في الداخل الأوكراني مع الاستعداد الجدي لمواجهة أيّ تطور يشكله تدخل الناتو في الحرب سواء على الأرض الأوكرانية أو خارجها خاصة بعد إغراق الطراد موسكوفا وتسجيل الدور الأميركي في ذلك.
ويبدو ان روسيا التي نراها ممسكة بزمام الأمور في الميدان والتي تخطط لعملياتها بشجاعة وروية تعرف جيداً مواطن وهن الخصم والعدو وتعرف ما يخطط لها من مكائد لذلك فإنها مع العمل الميداني الفاعل على أرض أوكرانيا عامة وفي إقليم الدونباس خاصة، تقوم باستعراض القوة وعرض العضلات وما إطلاق الصاروخ “سارمات” العابر للقارات إلا موقف يُضاف الى تجهيز الترسانة النووية الاستراتيجية للإطلاق أو التلويح باستخدام الاسلحة النووية التكتية، عندما تقضي الضرورة، مواقف تنفذ تحت قواعد صارمة تلتزمها روسيا تؤكد على أن “الفشل ممنوع” و”التراجع غير ممكن” و”حرب الاستنزاف غير مقبولة”.