تحليلات و ابحاثمقالات مختارة

كتب العميد الركن د . امين حطيط | لمَ الحديث عن تأجيل الانتخابات؟ وهل هو ممكن…؟

العميد الركن د . امين حطيط | باحث استراتيجي واستاذ جامعي

عندما انطلقت في لبنان شرارة «ثورة الـ 6 سنت» في 17 تشرين الأول 2019 ورفعت فيها مطالب اجتماعية محقة، التفّ معظم اللبنانيين حولها حتى أولئك الذين يشكلون بيئة أو جمهوراً لمن تولى السلطة في لبنان منذ العام 1992 أو التحق بها منذ العام 2005، لكن هذه «الثورة» وفي ظلّ فقدان أو احتجاب القيادة الحقيقية لها، سارعت الى رفع شعارات لا علاقة لها بالدوافع المعلنة لاندلاعها، شعارات جعلتها تنقلب الى غير حال لتظهر أداة بيد جهات خارجية بدت وكأنها كانت وراء انطلاقها أو تقدّمت للاستثمار فيها. وهنا تراجع الجزء الأكبر من الشرائح الشعبية وغادروا الساحات والشوارع التي بقيت مسرحاً لمن يستجيب لأوامر السفارات عامة والسفارة الأميركية خاصة.

وفي ربط للأمور وتحليلها يتبيّن انّ «ثورة الـ ٦ سنت» جاءت أو أنها آلت لتكون ترجمة لخطة وزير الخارجية الأميركية بومبيو الذي كان قد جاء الى لبنان لإطلاقها في آذار من العام نفسه 2019 أيّ قبل ستة أشهر من اندلاع نار الثورة المزعومة، وهي خطة تتضمّن إحداث فراغ سياسي يليه انهيار نقدي ثم انهيار اقتصادي… ما يسبّب انهياراً اجتماعياً يعرّض الأمن الداخلي للانهيار أيضاً، ما يؤدي الى محاصرة المقاومة وتحضير المسرح لعدوان «إسرائيلي». وقد تأكد هذا الربط عندما سارعت المصارف الى الإقفال لمدة أسبوعين بدأت فور انطلاق الثورة المزعومة، إقفال تمّ من غير سبب منطقي بل كان كما يبدو مخططاً ربطاً بالمساهمة بالانهيار النقدي والاقتصادي.

أما الشأن السياسي وما خطط لانقلاب فيه فقد تمثل بأمرين الأول استقالة الحكومة رغم تمتعها بأكثرية مريحة في مجلس النواب، استقالة تبعتها مماطلة في تشكيل حكومة جديدة ثم إسقاطها من غير سبب مقنع والدخول في نوع من شلل في وضع السلطة التنفيذية مع رفع شعار حكومة التكنوقراط التي تعني إبعاد السياسيين وأحزابهم عنها والقصد منه إبعاد حزب الله وممثلي المقاومة في مجلس النواب عن الحكومة، ثم كان الثاني عبر استقالات من مجلس النواب لعدد من أعضائه بلغ ٩ نواب (وكان مقدّراً ان يصل عددهم الى ٥٢) ليتاح طرح فكرة إسقاط المجلس والذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة تجرى تحت ضغط الشارع وتذكّر بانتخابات ٢٠٠٥ التي أعطت القوى العاملة بالإملاء الأميركي الأغلبية النيابية التي تمكنها من تشكيل حكومة تستبعد منها المقاومة وحلفاؤها.

بيد أنّ الأمور لم تسر على الوجه الذي شاءته أميركا ونفذته سفارتها في عوكر، حيث أعيد في نهاية المطاف تشكيل حكومة وأحجمت قوى أخرى عن الاستقالة من مجلس النواب. هنا تمّت المراجعة وبدأ الرهان على الانتخابات النيابية في موعدها التي عوّلت أميركا وحلفاؤها عليها من أجل الإمساك المنفرد بالقرار اللبناني.

وفي معرض الإعداد لهذه الانتخابات، الإعداد الذي بدأ منذ سنة تقريباً، بدأت السفارات ومراكز استطلاع الرأي بإجراء عمليات مسح واستطلاع لمعرفة صورة نتائج الانتخابات النيابية المقبلة، وهنا كانت المفاجأة الصادمة لهم حيث تبيّن انّ حزب الله وحلفاءه قادرون على العودة الى مجلس النواب العتيد بنسبة تزيد قليلاً عن الأكثرية المطلقة، من عدد أعضاء هذا المجلس، وأنّ هذه الأكثرية ستكون وطنية شاملة مع تنوّع مريح من حيث تركيبها المذهبي والطائفي، بمعنى أنها قادرة على تشكيل حكومة وطنية تراعي المقتضيات الميثاقية حسب الدستور. ولكن هذا الفريق أيّ فريق المقاومة ورغم احتمال حصوله على هذه الأكثرية وما تتيحه له، جاهرَ برفضه الاستئثار بكلّ مقاعد الحكومة العتيدة رافضاً فكرة إلغاء الآخر، مؤكداً على فكرة حكومة الوحدة الوطنية، عكس الفريق الآخر الذي جاهرَ بعزمه على تشكيل حكومة أكثرية تستبعد المقاومة مهما كانت التبعات والتداعيات.

وعليه باتت الانتخابات النيابية المقبلة ذات خصوصية تتجاوز في حقيقتها مسألة كونها شأناً داخلياً لبنانياً، وتنافساً بين مرشحين يسعون الى السلطة من أجل تنفيذ برامج معلنة ومحدّدة لخدمة الدولة وشعبها وتأمين الدفاع عنها وعن حقوقها وثرواتها، لتنقلب الى صراع ذي بعد دولي بين محورين، أحدهما يعمل بالإملاء الأميركي وليس لديه برنامج سوى عزل المقاومة ونزع سلاحها مهما كانت التداعيات على الدولة والدستور والأمن والسلم الداخلي، وفريق ثانٍ يطرح برنامج عمل لاستنهاض الدولة وحماية مصالحها وتأمين حقوق شعبها جماعة أو أفراداً.

بيد انّ الفريق الأول المُدّعي أنه «فريق سيادي» وفي ظلّ عجزه كما يبدو عن التوحّد في جبهة واحدة، وفي ظلّ عجزه المقدّر عن الحصول على الأغلبية النيابية في الانتخابات المقبلة، بات يتهيّب الموقف ويحاول معالجة الخسارة قبل وقوعها فلجأ الى رعاته الأجانب من عرب وغربيين طالباً إنقاذه من الورطة التي وجد نفسه فيها، محذراً من هاجس وهمي يتمثل بالقول بـ «سيطرة إيران على لبنان» وتصاعد سطوة المقاومة وتأثير سلاحها؛ الأمر الذي يتناقض مع المصالح الأميركية والخليجية، كما يروّجون.

وفي معرض معالجة هذه المخاوف والهواجس تمّت عودة سفراء الدول الخليجية الى لبنان بعدما كانوا استدعوا الى بلادهم احتجاجاً على تغريدة كتبها إعلامي لبناني قبل أشهر من تاريخ تعيينه وزيراً في الحكومة، عودة ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر، شيء متصل بقوة بالانتخابات النيابية حيث استعجل بعضهم العمل حتى بدا وكأنه مدير الحملة الانتخابية للقوى المناهضة للمقاومة، ولما لمسوا قصر المدة بدأ الحديث جدياً عن تأجيل الانتخابات لكسب الوقت وليكون لفريق الوصاية الأجنبية فرصة أوسع عله يستطيع معالجة الوضع المتردّي لأدواته بما يحجب الخسارة عنهم او على الأقلّ بما يحدّ من هذه الخسارة،

وفي هذه النقطة تكمن المعضلة، إذ انّ تأجيل الانتخابات بعد كلّ ما حصل منذ العام ٢٠١٩ وربطاً بالمواقف السابقة من فكرة التمديد للمجلس النيابي، لن يكون السير به آمناً وسهلاً. وهنا تكمن الخشية على الوضع في لبنان أمنياً وسياسياً، إذ قد يسعى الفريق الراغب بالتأجيل الى فرض واقع ميداني مخلّ بالأمن ليبرّر مطالبتهم بالتأجيل الذي يصعب فعله عبر الآليات الطبيعية.

وبعد هذا التقييم بات تأجيل الانتخابات النيابية كما يبدو اليوم فكرة ملازمة لكلّ حديث عن الانتخابات، ورغم انّ الدولة تشيع ليل نهار بأنها قامت بكلّ ما عليها من تدابير وإجراءات تتطلبها العملية الانتخابية، وبالتالي لن يكون التأجيل مبرّراً وفقاً للسياق العادي للأمور. ومع هذا فإنّ الحديث عنه يبقى مستمراً لأنّ هناك غاية أخرى له، وهي تتلاقى مع إشاعة القول بأنّ فريق المقاومة سيفوز بالأكثرية المطلقة في كلّ الأحوال، في سلوك يرمي الى دفع جمهور المقاومة للاسترخاء حتى إذا جرت الانتخابات في وقتها كانت المفاجآت في تحشيد الفريق الآخر الذي سيستفيد من الكمّ الهائل من الأموال التي بدأت تضخ في لبنان للتأثير على العملية الانتخابية لتكون نتائجها في غير صالح المقاومة.

وفي المحصلة ورغم الحرب المركبة التي تشنّها أميركا على لبنان لاستهداف المقاومة فيه، ورغم المآسي التي أنتجتها هذه الحرب التي يتشارك فيها الأجنبي المعتدي مع اللبناني الفاسد والمفسد او المرتهن للإرادة الخارجية رغم كلّ ذلك نجد انّ هذه الحرب لم تحقق حتى الآن أهدافها وبقيت المقاومة صامدة وتراكم القوة وقد وصلت المواجهة الآن الى محطة جديدة هي إعادة تكوين السلطة عبر الانتخابات النيابية لإنتاج سلطة تعيد الى الأذهان حقبة ٢٠٠٥ – ٢٠٠٨، وهي محطة تعوّل عليها القوى الأجنبية لتعويض ما تخلفت عن فعله او إتمام إنجازه خلال السنوات الثلاث المنصرمة من تاريخ وضع خطة بومبيو التدميرية موضوع التنفيذ، ولذلك فإنّ جمهور المقاومة وحلفاءها سيجدون أنفسهم مدعوين للتعامل مع هذه الانتخابات بالمنظور الاستراتيجي العام وعدم التوقف عند الجزئيات والتفاصيل الأخرى على أهميتها لأنه في معرض الصراع الوجودي يكون الهدف الاستراتيجي الكبير متقدّماً عما سواه ويكون الأهمّ تحقيقه وبلع بعض المساوئ الأدنى في الأهمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى