العميد الركن الياس فرحات | باحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية
إستيقظ العالم فجر اليوم (الخميس) على مشهد دولي جديد. الجيش الروسي يوجه ضربات عسكرية موجعة للبنية العسكرية للجيش الأوكراني في جميع أنحاء أوكرانيا ويدخل إلى منطقتي دونيتسك ولوغانسك في حدث هو الأضخم الذي تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
منذ ان لاحت تباشير الحشود العسكرية الروسية على حدود اوكرانيا، كان يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو أن يطمئنوا موسكو بمنحها ضمانات من نوع الإلتزام بعدم انضمام اوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي. لا الولايات المتحدة ولا الإتحاد الأوروبي ولا اوكرانيا قدموا أية أجوبة على رسالة روسيا الخطية بطلب ضمانات امنية. وبينما كان فلاديمير بوتين يستعرض عضلاته عسكريا في محاولة للحصول على ما يريد من دون اللجوء إلى الخيار العسكري، شنت الولايات المتحدة حملة اعلامية ـ سياسية عنوانها التحذير من غزو روسي مرتقب لاوكرانيا وراحت تحدد مواعيد للغزو وتضع تقديرات لأعداد القتلى والجرحى والنازحين وتتهم بوتين بانه ينحو منحى هتلر في الحرب العالمية الثانية. وهكذا، فشلت وساطات الاوروبيين المتضررين من اي مواجهة عسكرية ولم توفر المحادثات الأميركية ـ الروسية ما يبحث عنه القيصر الروسي. ازاء انقطاع الامل بالتوصل إلى اي تسوية سياسية تؤمن لروسيا الضمانات الأمنية المنشودة، اعترفت روسيا باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، لتبدأ بعد ذلك الخطوة الثالثة المتمثلة في تنفيذ هجوم عسكري في الدونباس. كانت اجندة الغرب المُشتهاة وما تزال أن تنزلق روسيا إلى غزو شبيه بما حصل في أفغانستان (1979 ـ 1989) ولذلك هيّأت سبل المقاومة فاستقدمت قوات خاصة بريطانية واميركية وكندية وجهزت قوات الدفاع الاقليمي بأحدث الأسلحة المضادة للدروع وبصواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف. هذا التجهيز يشبه تجهيز “المجاهدين الافغان” غداة الإجتياح السوفياتي لافغانستان عام 1979. اما اجندة روسيا فقد بدت مختلفة. مرّ تاريخ 16 فبراير/ شباط ، اليوم الموعود للحرب (حسب المواعيد الأميركية)، ولم نشهد إجتياحاً روسياً لأوكرانيا لكن موسكو كانت تُعزّز حشودها ونفذت مناورات تدريبية على طول حدودها مع اوكرانيا. كما دعّمت القوات الذاتية لجمهوريتي لوغانسك ودونتيسك الشعبيتين.
بلغ الموقف ذروته مع خطاب بوتين، امس (الأربعاء) وتعبيره عن قلق روسيا من الانباء التي اعلنها مسؤولون اوكرانيون حول استعدادهم لبناء سلاح نووي، وقال ان روسيا تنظر بجدية الى هذه الانباء، وإتهم دولاً رائدة في الناتو، “بتقديم الدعم للقوميين المتطرفين والنازيين الجدد في أوكرانيا في كل شيء. وهؤلاء بدورهم لن يغفروا لسكان القرم وسكان سيفاستوبول اختيارهم الحر في إعادة التوحيد مع روسيا، وهم، بالطبع يحاولون الدخول إلى شبه جزيرة القرم، وكذلك إلى دونباس، بطريقتهم الخاصة، من أجل قتل المواطنين العزل، كما قامت عصابات القوميين الأوكرانيين النازيين- شركاء هتلر خلال الحرب الوطنية العظمى، بقتل الأبرياء العزل”. لم يلب بوتين حتى الآن رغبة الغرب بإستدراجه إلى حرب شبيهة بحرب افغانستان تكون نتيجتها مأساوية بحجم نتائج الانسحاب من افغانستان، بل إختار إعتبارا من فجر اليوم (الخميس) توجيه ضربات صاروخية روسية دقيقة ضد المنشآت العسكرية الاوكرانية لا سيما مراكز الدفاع الجوي والانذار المبكر والمفاعلات النووية والثكنات العسكرية ومخازن السلاح والقواعد الجوية. ومع تعطيل القدرات الدفاعية لاوكرانيا، يشي السيناريو الروسي بالسعي إلى الحصار والضغط وصولا إلى تلاشى سلطة الحكومة المركزية الاوكرانية، الأمر الذي يفتح الباب أمام محاولة اقاليم اخرى الإنفصال عن أوكرانيا. على سبيل المثال اوديسا وغيرها وهذا يعني ان تفكيك اوكرانيا بات خياراً روسياً مطروحاً في المستقبل المنظور. تفكيك من شأنه إستدراج دعوات انفصال وتفكيك في دول اوروبا الشرقية القديمة وابرزها بولندا، وهذا الأمر من شأنه أن يُعرض الاتحاد الاوروبي لخطر حقيقي. الأثمان الإقتصادية التي ستدفعها روسيا جراء حرب الدونباس ستكون كبيرة حتماً، بدءاً من قرار المانيا القاضي بتعليق عمل نورد ستريم ٢، فضلاً عن العقوبات الغربية التي ستطال قطاعات المصارف والتبادل التجاري مع الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الاوروبي. بالمقابل، فإن ارتفاع سعر الغاز قفزة واحدة بنسبة ٣٠٪ سيؤثر سلباً على اسعار الطاقة ويزيد كلفة الانتاج الصناعي واستهلاك المواطنين في الاتحاد الاوروبي. اذا استمر الهجوم الروسي ضمن الحدود الإدارية لجمهوريتي لوغانسك ودونتيسك، فضلاً عن تدمير القدرات العسكرية الأوكرانية وفرض حصار بحري من دون أي توغل تقليدي بري في العمق الأوكراني (مدن وقرى)، فانه يكون قابلاً لتحقيق أهدافه ويؤسس للفوضي والاضطرابات في اقاليم اوكرانيا الشاسعة (تبلغ مساحة اوكرانيا ٦٠٠ الف كلم مربع)، اما اذا تورط الجيش الروسي في حرب عصابات مع قوات خاصة، وهذا مستبعد وفق الاداء الحالي، فانه يضع نفسه في مأزق عسكري كبير.
يبقىي ان بوتين لم يفسح المجال لتدخل عسكري تقليدي لحلف شمال الاطلسي الذي لا يرغب بزج قواته في معركة عسكرية تقليدية لا قدرة على تحمل نتائجها ولا سيما الاستنزاف العسكري الطويل الامد. علينا ألا ننسى ان بوتين قد اتخذ قراره مستندا الى تحالف وثيق مع الصين تكرس في قمة بكين التي عقدها مع الرئيس شي جين بينغ والتي صدرت عنها وثيقة تاريخية تحدثت عن “دخول الشؤون الدولية في عصر جديد”. في المحصلة الأولية، يمكن القول إن نتيجة الحرب الروسية ـ الأوكرانية في ساعاتها الأولى هي الآتية: -عسكرياً رابح (روسيا) – خاسر (الغرب). -إقتصادياً خاسر/ خاسر. -سياسياً؛ من المبكر الجزم لكن حتماً نحن أمام مرحلة دولية جديدة لن تقتصر تداعياتها على ساحات المواجهة الميدانية بل على مجمل النظام العالمي.
موقع 180 بوست