* بداية تشكيل حزب الله
تشكَّل حزب الله بمباركة الإمام الخميني(قده)، في سنة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث واجهت مجموعات تؤمن بهذا الخط “إسرائيل” على مشارف خلدة ثم في محيط مدينة بيروت مع حركة أمل وقوى فلسطينية ولبنانية. بدأت التدريبات العسكرية المنظمة للمنتسبين إلى خط حزب الله في الزبداني في سوريا من خلال حرس الثورة الإسلامية الإيرانية، وأصبح للحزب الناشئ قيادة هي الشورى، وتأسست مجموعات المقاومة التي كانت تعمل سرًّا حيث يتواجد الاحتلال الإسرائيلي، من دون أنْ تُدركَ “إسرائيل” من هم الذين يقاتلونها، إلى أنْ كانت عملية الشهيد أحمد قصير، وهي العملية الاستشهادية الأولى ضد “إسرائيل” في مدينة صور الساحلية المحتلة ضد مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في 11/11/1982، والتي نتج عنها تدمير المقر، وقتل وفقدان 150 من الجيش الإسرائيلي وعملائه. لم يعلن الحزب عن اسم الشهيد لوجود عائلته في بلدة دير قانون النهر الجنوبية التي كانت تحت الاحتلال إلّا بعد الانسحاب الإسرائيلي سنة 1985، وذلك في بلدته دير قانون النهر، في احتفال حاشد في آخر شهر نيسان، كما عرضت تصويراً بالفيديو لتفاصيل العملية.
بدأ الحزب يعلن عن عملياته ضد “إسرائيل” بعد فترة من الزمن باسم المقاومة الإسلامية، وبدأت “إسرائيل” تتلمَّس مواجهةً لها من قوىً جديدة، وأنَّ إخراجَ الفلسطينيين المقاومين من لبنان إلى تونس لم يحقق هدفهم في إنهاء المقاومة في لبنان ضد “إسرائيل”.
عملت “إسرائيل” على رصد مكامن الخطر الجديد عليها، فوجدت أنَّ العلماء لهم دور كبير في التعبئة والجهاد، فاغتالت الشيخ راغب حرب(قده) في 16 شباط 1984، ثم اغتالت السيد عبد اللطيف الأمين(قده) في 15/11/1984. ولكن مع العمليات المتواصلة للمقاومة لم تستطع الاستقرار في المساحة الواسعة التي احتلتها وبقيت فيها في الجنوب، فاضطرت للانسحاب من مناطق صيدا وصور والنبطية وقرى من البقاع الغربي وغيرها مبقية على الشريط المحتل في الجنوب والبقاع الغربي والذي بلغت مساحته حوالى 1100 كلم2 أي ما يعادل 55 % من مساحة الجنوب اللبناني، و11 % من مساحة لبنان البالغة 10452 كلم2.
وقد قال عضو الكنيست الإسرائيلي مردخاي بار: “الجرأة البالغة لعمليات حرب العصابات الشيعية في جنوب لبنان، بل والمدى الذي لا يستهان به من النجاحات خلال الشهور الأخيرة، أثارت في أوساط الرأي العام الشعبي (الإسرائيلي)، المقارنة التي تطرح نفسها بين الإرهاب الشيعي والإرهاب الفلسطيني، وهناك من يعتقد أن تزايد النشاط المعادي في أوساط السكان الفلسطينيين في المناطق (المحتلة) خلال الشهور الأخيرة، نابع هو الآخر من وحي النجاحات الشيعية في الشمال”.
* المرحلة الثانية
أعلن حزب الله عن حضوره العلني والسياسي في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد الشيخ راغب حرب في 16 شباط 1985 من خلال وثيقة تُبيِّن رؤيته الفكرية والجهادية والسياسية اطلق عليها اسم “الرسالة المفتوحة”، ومعها بدأ العمل السياسي المعلن والظهور الإعلامي المواكب لعمل المقاومة الإسلامية. كانت المرحلة الأولى سريَّة منذ التأسيس إلى إعلان “الرسالة المفتوحة”، وهي ضرورية للتأسيس وتنظيم بُنية الحزب ومقاومته، خاصة أنَّ المقاومة السريَّة في الجنوب ضرورة كي يبقى الإسرائيلي محتارًا وجاهلًا بمعرفة من يُقاتله، ولمزيد من حماية الأهل في المنطقة المحتلَّة، كما أنَّ اكتمال البناء الداخلي ضروري قبل البدأ بالعمل السياسي المعلن والظهور الإعلامي.
امتدت المرحلة الثانية من إعلان “الرسالة المفتوحة” إلى زمن حل مشكلة الحرب اللبنانية التي استمرت خمسة عشر عامًا وذلك في العام 1990، حيث تصاعدت قدرة المقاومة ضد “إسرائيل”. ولكنَّ حزب الله واجه مشكلة داخلية مع حركة أمل أدَّت إلى اقتتال الإخوة لمدة سنة ونصف، انتهت بحمد الله تعالى بالاتفاق في 9/11/1990، وهو الذي أطلق مرحلة جديدة من التعاون تُوِّجتْ بتحالفٍ فعَّال على الساحة اللبنانية، أصبح مضرب مَثَل في عمق التَّحالف والتَّعاون، وكانت له الآثار المهمة في حماية مشروع المقاومة، والتماسك الداخلي، وما زال مستمرًا صلبًا بحمد الله تعالى.
* المرحلة الثالثة
بدأت مع تَشكُّل المؤسسات الدستورية في لبنان وخاصة انتخاب المجلس النيابي عام 1992، حيث شارك فيه الحزب ترشيحًا لأول مرة، وحصل على كتلة مؤلَّفة من اثني عشر نائبًا. لم تتعارض مشاركة الحزب في المجلس النيابي مع استمرار المقاومة وتصعيد عملياتها وزيادة فعاليتها، خلافًا لما اعتقده بعض السياسيين من إمكانية التخلي التدريجي عن المقاومة لمصلحة العمل السياسي والمواقع في تركيبة النظام، وفاتهم أنَّ مشروع الحزب المقاوم هو الأساس، وأنَّ العمل السياسي يتكامل معه لتلبية حاجات الناس وتمثيلهم، ولحماية المقاومة ومشروعها من هذا الموقع.
كانت “إسرائيل” قلقة من آثار المقاومة في تقييد حركة الجيش الإسرائيلي وعملائه، وتخشى منها على مخططاتها، فاغتالت الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي(قده) في الذكرى السنوية لاستشهاد الشيخ راغب حرب(قده) عام 1992، على طريق بلدة “تفاحتا” وهو في طريق العودة من الاحتفال بالذكرى في جبشيت، واستشهد معه زوجته أم ياسر وطفله حسين، ظنًّا من “إسرائيل” أنَّها تُضعِفُ قدرة المقاومة باغتيال رأس الهرم، ولكن – والحمد لله تعالى – أثمرت شهادته انتخابَ خليفة له هو سماحة السيد حسن نصر الله(حفظه المولى)، الذي نقل الحزب إلى مرحلة جديدة متقدِّمة ومتطوِّرة، تتابعت فيها الانتصارات، وتراكمت فيها الإمكانات، وأصبح للحزب مكانته محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا بما فاق تصور العدو الإسرائيلي وكثيرٍ من المحللين. لقد نَمَتْ قدرةُ حزب الله بشهدائه وعطاءاتهم وجرحاه وأسراه ومجاهديه وعوائلهم، فالشَّهادة حياة، “وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”، ولكنَّ أعداءنا جاهلون.
شنَّت “إسرائيل” عدوانًا على لبنان في 25 تموز 1993 استمر لسبعة أيام، وكما قال شيمون بيريز: “إنَّ للهجمات هدفين: الذين يهاجموننا مباشرة وخصوصاً حزب الله، ولفتُ انتباه سكان لبنان والحكومات المعنية إلى ضرورة ممارسة الضغوط لوقف نشاط حزب الله”، فاكتشف أنَّ المقاومة متقدمة في قدراتها وصمودها وثباتها، ما اضطرَّ العدو إلى “وقف العدوان الإسرائيلي في مقابل وقف إطلاق صواريخ الكاتيوشا، في الساعة السادسة من مساء السبت 31/7/1993، وهكذا ولد “تفاهم تموز” كتعبير عن هذا الاتفاق الشفهي الذي تم عبر الوسطاء، من دون وجود أي صيغة خطية له”.
اعتبرت “إسرائيل” أنها استعدت بما فيه الكفاية، وحصلت على دعم دولي مهم عندما التأمتْ قمة شرم الشيخ في مصر في 13 آذار 1996 دعمًا لـ”إسرائيل”، وحضرها إلى جانب أمريكا أغلب دول العالم والدول العربية، فشنت حربها على لبنان في 11 نيسان 1996 بحجة الرَّد على صواريخ حزب الله ضد المستعمرات الإسرائيلية، وفوجئت مرةً جديدة بتطور قدرات المقاومة الإسلامية وتكبيد العدو الإسرائيلي خسائر لا يتحمَّلها في نقاط ضعفه، ما اضطر العدو بعد ستة عشر يومًا أن يعقد اتفاقًا خطيًّا هذه المرة، هو “اتفاق نيسان”، الذي وقعه لبنان الرسمي مع سوريا وفرنسا وأمريكا ومن جهة أخرى “إسرائيل”، وهو “يعطي مشروعية للمقاومة بإقرار العدو من خلال حق الدفاع عن النفس، والحديث عن تحييد المدنيين، وهو منسجم مع تفاهم تموز بالتأكيد على عدم قصف إسرائيل للمدنيين والمنشآت المدنية في لبنان مقابل عدم إطلاق حزب الله لصواريخ الكاتيوشا واستهداف المدنيين في المستعمرات الشمالية”، على أن يكون الرَّد على “إسرائيل” من خارج الأماكن السكنية، وهو ما ينسجم مع أداء وتوجهات المقاومة، لكنَّه مخرجٌ لإيقاف عدوان إسرائيل على لبنان.
تكثَّفت عمليات المقاومة، التي استهدفت مواقع عملاء “إسرائيل” على امتداد الشريط الحدودي المحتل، فأدركت “إسرائيل” أنَّ استمرارها في احتلال لبنان من دون جدوى، وأنَّ خسائرها المباشرة من جنودها وضباطها تتصاعد يومًا بعد يوم، فحاولت أنْ تُمهِّد الطريق للانسحاب من لبنان باتفاق معه أو مع سوريا، لكنَّها لم تحصل على شيء، فاضطرت للانسحاب ذليلة من دون قيد أو شرط في 25 أيار 2000، مبقيةً على احتلالها لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
ظنَّت “إسرائيل” بأنَّ انسحابها سيؤدي إلى حالةٍ داخلية في لبنان تضغط لإيقاف عمل المقاومة بمؤازرة الضغط الدولي، لكنَّ المقاومة استمرت وكثَّفت تدريباتها وإمكاناتها وزادت عديد مجاهديها وطوَّرت كفاءاتهم، واستحضرت المزيد من الأسلحة النوعية، فكان مرورُ الزمن عاملًا في زيادة القدرة المقاومة كمًّا ونوعًا، استعدادًا لأيّ مواجهة متوقعة من هذا العدو، فهو لن يسكت على خروجه ذليلًا، وهو يريد لبنان ضعيفًا بلا مقاومة، ليتسنى له أن يعتدي متى شاء، ويفرض شروطه بالتهديد العسكري والحرب على لبنان متى شاء. لكنَّ حزب الله كان مدركًا لهذه الأخطار، لذا استمر في إعداد القوة والعدة ليوم العدوان القادم.
ردع “إسرائيل”
أسَرَ حزب الله جنديين إسرائيليين في 12 تموز 2006 على الحدود اللبنانية الفلسطينية للاستفادة منهما في الإفراج عن الأسرى المعتقلين في السجون الإسرائيلية، فاستغلَّت أمريكا الفرصة، وألزمت “إسرائيل” بشن عدوان على لبنان بحجة استعادة الأسيرين، ولكنَّ الهدف هو “سحق حزب الله” وإنهاءُ وجوده. وكما تبيَّن لاحقًا، فإنَّ عملية العدوان كان مخططًا لها أن تكون بعد حوالى شهرين، ولكن الأسر أتاح المبرِّر، فكان عدوان تموز الذي استمر ثلاثة وثلاثين يومًا.
فاجأ حزب الله العدو الإسرائيلي بالمفاجأت العسكرية في البر (صواريخ كورنيت) والبحر (ضرب ساعر)، وبالإمكانات النَّوعية والكثيرة التي وفَّرها قائد محور المقاومة الشهيد قاسم سليماني(قده) مع حضوره المباشر في غرفة عمليات المقاومة أثناء العدوان. كما فاجأ حزب الله العدو بالتَّخطيط الدَّقيق، والانتشار الواسع في بقع المعارك العسكرية مع تجهيزها بشكل مستقل لتكون وحدات قتالية مستقلة في المواجهة، ومترابطة مع المركز والوحدات الأخرى في مواجهة العدوان الشامل، وهذا من إبداعات وخطط القائد الملهم والاستثنائي الشهيد عماد مغنية(قده) الذي أعلنه سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله قائدًا للانتصارين في 2000 و2006. ولا زالت أصداءُ كلمات وخطب سماحة السيد حسن نصر الله(حفظه المولى) تصدحُ أثناء الحرب في الأرجاء، موضِّحًا للحقائق، شارحًا لمسار المعركة، مُبشرًا بالنَّصر، وكاشفًا لنقاط ضعف إسرائيل، ومعبئًا لجمهور المقاومة ومحبيها، ومثبتًا له على الموقف المؤيد والداعم بكل أشكال الدعم للمواجهة مع “إسرائيل”، والتي انتهت بهزيمةٍ مدويَّة لـ”إسرائيل”، ونصرٍ عظيم للمقاومة، وذلك بإعلان توقف الأعمال العدائيَّة بإعلان قرار مجلس الأمن رقم 1701.
منذ عدوان 2006 حتى اليوم 2022، و”إسرائيل” مردوعةٌ عن العدوان ضد لبنان، بسبب جهوزية حزب الله الحاضرة دائمًا لأيّ مواجهة ولو وصلت إلى مستوى الحرب، ذلك أنَّ الحزب يراكم قوته وقدرته وعديده وإمكاناته ليبقى حاضرًا للمقاومة والدفاع في مواجهة أصعب الظروف. لولا استمرار مقاومة حزب الله وجهوزيته لاعتدت إسرائيل على لبنان لابتزازه سياسيًّا، وتحقيق مكتسبات له ميدانيًّا، واستدرجت عروضًا سياسية داخلية تخدم الصهاينة. إنَّ دور حزب الله الدفاعي هو الذي حمى لبنان خلال هذه الفترة، وهو الذي مكَّن أن لا يكون معبرًا للمشاريع السياسية الإسرائيلية، في إطار التكامل بين دعائم ثلاثي الجيش والشعب والمقاومة.
* المشاركة في الدولة
منذ 1992 بدأ نشاط حزب الله النيابي، واستطاع أن يكون مؤثرًا في القوانين وخدمة المناطق التي يمثلها، وعمل بنشاط تشريعي كبير، لكن لم يشارك في أي حكومة إلى عام 2005، ذلك أنَّ المشاركة في الحكومة في تلك المرحلة لم تكن تُشكِّل أيّ إضافة أو تأثير أو خدمة بنظر الحزب، فالقرار السياسي كان بيد سوريا وهي داعمة لحقِّ المقاومة، وهو ما كان مطلوبًا وكافيًا آنذاك. أمَّا بعد شهادة الرئيس رفيق الحريري وخروج السوريين من لبنان، فقد أصبح للحكومة موقع التأثير في القرار السياسي فضلًا عن خدمة النَّاس ورعاية شؤونهم، فإذا كان الحزب جزءًا من صناعة القرار يمكن أن يضمن صوابيته، ويطمئن إلى عدم استهدافه، كما يساعد على خدمة الناس في الوزارات المختلفة. ظهرت أهمية المشاركة في الحكومة من خلال نقاش البيان الوزاري الذي كانت تنعقد له جلسات كثيرة أغلبها حول بند حق المقاومة ضد “إسرائيل”، وهو البند الذي يشكِّلُ غطاءً مساعدًا لدور المقاومة في حماية لبنان، وهذا الأمر مخالفٌ لما تريده “إسرائيل” وأمريكا والمؤيدون لمشروعهما داخليًّا وخارجيًّا.
لم تتوقَّف الحملة على المقاومة وسلاحها، بحجة حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني، وكان رد حزب الله بأنَّه عاملٌ مساعد في حماية لبنان وليس بديلًا عن الجيش، الذي لا تسمح إمكاناته بمواجهة “إسرائيل”، ولا تقبل الدول الكبرى بتسليحه بما يساعده على صدِّ العدوان الإسرائيلي أو مواجهته.
في هذه المرحلة تنامت قدرة حزب الله وشعبيته، وكان حضوره السياسي والإعلامي مؤثرًا، ومع كل التآمر الأمريكي – الإسرائيلي على لبنان ومقاومته، صمدَ وجمهوره وحلفاؤه أمام التحديات. وتميَّز عام 2006 في بدايته بعقد تفاهم بين حزب الله وبين قوة سياسيَّة وشعبية مؤثرة في الساحة المسيحية خاصة وهي التيار الوطني الحر الذي كان يرأسه العماد ميشال عون.
* استمرار التحديات
أحد أهداف الحرب على سوريا عام 2011 هو قطع التواصل مع محور المقاومة، بين إيران وبين حزب الله والفلسطينيين، والتي فشلت بصمود القيادة والشعب السوري، وبدعم من إيران وحزب الله ومعها التضحيات الكثيرة، فبدل أن تسقط سوريا لمصلحة المشروع المعادي للمقاومة خلال أشهر كما كانوا يخططون، انتصرت سوريا على التكفيريين (داعش، والنصرة، والقاعدة…)، وحرَّرت الجزء الأكبر من أراضيها، وأسقطت دولة التكفير التي ترعاها أمريكا والغرب وبعض دول الخليج وعلى رأسها السعودية.
استطاع الجيش اللبناني بمساندة حزب الله تحقيق الانتصار الثاني بهزيمة التكفيريين في لبنان عام 2017، وتعطَّل مشروع إمارتهم التكفيرية التي أرادوها انطلاقًا من بلدة عرسال وجوارها في البقاع.
أذهلت إنجازات حزب الله المستكبر الأمريكي وأدواته، فلم تُفلح الحروب العسكرية ضدَّه، أكانت من “إسرائيل”، أم من أذنابها وأدواتها التكفيرية، ولم تنجح محاولات التحريض داخل لبنان من جرِّ الجيش إلى اقتتال داخلي، ولا في توريط حزب الله بفتن طائفية ومذهبيَّة، فخرج حزب الله أقوى بانتصاراته المتتالية في مواجهة التحديات العسكرية.
بدأت أمريكا بنهج جديد وهو العقوبات والحصار على حزب الله ولبنان، ماليًّا بالضغط على النظام المصرفي والضغط على سعر صرف الليرة اللبنانية، واقتصاديًّا بالتَّحكم بمسار ما يستورده من الخارج والدول المسموح الاستيراد منها، والمنع من الاتفاق مع شركات من البلدان الشرقية كروسيا والصين وإيران… لتستثمر في قطاعات أساسية كالكهرباء والماء وغيرهما، وسياسيَّا من خلال رفض عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، وقد ناهز عددهم المليون ونصف المليون نازح، بإغرائهم بالمساعدات، وتخويفهم من العودة إلى سوريا، والضغط على الدولة اللبنانية لتسهِّل لهم الأعمال في المهن المختلفة وتوفر لهم البنية التحتيَّة اللازمة للتواجد في لبنان، مع ما لهذا الوجود من أعباء اقتصادية واجتماعيَّة وأمنيَّة، فالنازحون يمثلون أكثر من ربع المقيمين على الأراضي اللبنانيَّة.
استغلَّ الأمريكي انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، التي انطلقت بعفويَّة من ألم الناس بسبب التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأ يلوح في الأفق، ولرفض المعالجات التي تعتمد الضرائب وتؤثر سلبًا في حياة الفئات الفقيرة في المجتمع، فعملت سفارة أمريكا من خلال بعض جماعات وشخصيَّات المجتمع المدني الذين تمولهم، بالتحريض على إثارة الفوضى، وتحريك الفتن المذهبيَّة، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وقطع الطرقات الرئيسيَّة، وتعطيل المؤسسات الدستوريَّة وخاصة المجلس النيابي، والاشتباك مع القوى الأمنية لاستثمار الدم في تسريع نتائج التحرك لإسقاط مؤسسات رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي… وعملوا على استفزاز حزب الله وحلفائه والبيئة المؤيِّدة لهم لجرِّهم إلى المواجهة الفتنويَّة، لكن حكمة وصبر الحزب وحكمة قيادته وتفاعل جمهوره مع قراراته، وتعاون حلفائه، أدَّى إلى تعطيل هذا المخطط الأمريكي – الإسرائيلي الخطير، لكنَّه أوقع البلد في أسوأ أزمة اقتصادية – اجتماعيَّة منذ الاستقلال.
لا تقتصر أسباب الأزمة الاجتماعية الاقتصادية على إرهاب ومؤامرة أمريكا على لبنان، بل تشمل الفساد المستشري في الدولة على كل المستويات، وطبيعة النظام الطائفي الذي يحمي المرتكبين، وعدم المحاسبة بوجود قضاء غير فعَّال ومتأثر بنسبة ما بالفساد، والاقتصاد الريعي الذي حوَّل لبنان إلى بلد استهلاكي يضر بالإنتاج الزراعي والصناعي والمحلي أي بموارد تقوية الاقتصاد…
وضعَ التدهور الاقتصادي والاجتماعي اللبنانيين في المأزق، وسار التدهور في العملة الوطنية وفي كلِّ شيء إلى الأسوأ، ومع ذلك لم تتمكن أمريكا من إضعاف حزب الله في هذه الأزمة على الرغم من كلِّ التصويب عليه.
* أربعون عامًا من الجهاد
أربعون عامًا مرت على انطلاقة حزب الله، الذي بدأ بإمكانات محدودة، ولكن من فكرٍ إسلامي ملتزم أصيل، رسَمَ عناوين العمل الثقافي والجهادي والسياسي والاجتماعي، وأثبت أنَّه ميزان الطريق المستقيم نحو الوطنية والمقاومة والوحدة وخدمة الناس.
أربعون عامًا من الجهاد، واجه فيها حزب الله “إسرائيل”، التي أربكت المنطقة، واحتلت فلسطين واحتلت أجزاء من لبنان وسوريا والأردن ومصر، وكانت تعتبر جيشها القوَّة التي لا تُقهر، فهزمها حزب الله هزائم نكراء في حروبها الثلاثة على لبنان وآخرها عدوان تموز 2006، وأثبتَ أنَّ إرادة الشعوب لتحرير الأرض والإنسان أقوى من جحافل الجيوش والظلم العالمي والإقليمي.
أربعون عامًا من العمل في خدمة الناس، من خلال دور الحزب في الدولة، فعمل نوابه بالمساهمة في تقديم بعض اقتراحات القوانين، ودراسة ما يُعرض على المجلس، بالاستفادة من الخبرات والاختصاصيين، لتحقيق العدالة وإنصاف المناطق اللبنانيَّة بتوازن. وكان النواب بين النَّاس ومعهم في قضاياهم ومعالجة مطالبهم مع أجهزة الدولة. كما كان أداء وزراء حزب الله مميَّزًا على الصعيد الوطني، وتركوا بصمتهم واضحة في الوزارات التي أداروها، فضلًا عن مساهماتهم الفعَّالة في جلسات مجلس الوزراء ومناقشة وتصويب البنود المطروحة على جداول أعماله.
أربعون عامًا من العمل في خدمة الناس، وما قدَّمه حزب الله من خلال بنيته التنظيمية في مناطقه، وعبر مؤسساته المختلفة، من أنواع الخدمات والمساعدات الاجتماعية والتموينيَّة والصحيَّة والماليَّة والتربويَّة… في إطار من التكافل والتضامن والتعاون باحترام وأُخوَّة. وقد عبَّر الناس عن ثقتهم بالحزب وتماسكهم حوله ووفائهم له، وهم الذين تماسكوا حوله في كل المراحل، وفي مواجهة كل الأزمات، ورفدوه بالطاقات الشابة، وصمدوا في مواجهة التحديات.
أربعون عامًا واجه فيها حزب الله كل أنواع التحديات الداخلية والخارجية، القريبة والبعيدة، وواجه هجمة دولية منظمة ترعاها أمريكا لتجريده من قوته ولإسقاطه والتضييق عليه، فاستطاع حزب الله أن يتخطى هذه الصعوبات، ويخرج من كلِّ تحدٍ بنصرٍ وتوفيقٍ وعزةٍ ومنعةٍ أقوى وأكبر وأهم مما كان عليه.
أربعون عامًا أصبح فيها الحزب خيارًا ودعامة من دعامات حاضر ومستقبل لبنان، وأصبح ملهمًا بمقاومته لشعوب المنطقة وكلِّ الأحرار الذين يتوقون إلى التحرير والاستقلال من التبعية.
أربعون عامًا نجح فيها حزب الله بأن يبني تحالفات مع قوى وأحزاب وفعاليات ومذاهب وطوائف من مشارب ثقافية وفكرية مختلفة، على جامع المقاومة والوحدة الوطنية والاستقلال ونصرة الحق.
أربعون عامًا تعاون فيها حزب الله مع قوى التحرير في المنطقة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني ومقاومته، فقدم التضحيات ونقَلَ الخبرة، وساعد في الإمكانات بما جعله رمزًا للتعاون مع أصحاب الحق من دون انتظار الدول، ومن دون ابتغاء البدَل أو الثمن.
أربعون عامًا من العلاقة بين حزب الله وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقائدها الإمام الخميني(قده) ومع الإمام الخامنئي(دام ظله)، بمعونة حرس الثورة الإسلامية في إيران وتدريبه ودعمه وخبرته، ونُصرة شعب إيران العزيز للمقاومة في فلسطين ولبنان، وبدعمٍ وعطاءات ومساعدات قدمتها إيران مالًا وتسليحًا وتموينًا ونفطًا ودواء… وفي كل المجالات، على قاعدة دعم المقاومة وتحرير الأرض وبوصلة فلسطين، من دون أن تطلب شيئًا لها، في أشرف وأعز وأنبل وأرقى علاقة، وفي نموذجٍ لم يشهده العالم في الماضي والحاضر بأن تعملَ حركةٌ جهاديةٌ بقناعاتها ولمصلحة بلدها ومنطقتها من دون أوامر أو إملاءات أو استثمارات، ومن دون مساومة مع القوى الكبرى عليها.
حيَّا الله الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقيادتها وحرسها وشعبها على هذا النموذج الراقي من الأخوَّة ونصرة الحق ودعم المظلومين والمستضعفين.
أربعون عامًا في مسيرة تصاعدية، وانتصارات عظيمة، وتحولات مفصلية في المنطقة، وكسرٍ للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي، واستنهاضٍ لشعوب المنطقة، وإحياء لقضية فلسطين والقدس، وارتقاء بها إلى الصف الأول كبوصلة على طريق التحرير والاستقلال. قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ”.
أربعون عامًا ثبَّتت وجود وحضور وقوة حزب الله فكرًا وجهادًا وسياسة، وإلى المزيد من النصر والتوفيق بإذن الله تعالى.