الشيخ الدكتور صادق النابلسي | أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية
عندما اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان عام 1982، بدأ الشباب الثوري الملتزم بنهج الإمام الخميني الراحل في بيروت والجنوب والبقاع ومناطق أخرى، يفتش عن إطارٍ مقاومٍ لا يخطئ طريقه عن فلسطين، ولا يكون طُعماً لموت عبثي في دروب يسلكها تجار الحروب والأحقاد، ويكون تعبيراً عن رغبة حارّة في التعرّف إلى كل ما يتصل بالإسلام ومبادئه، وعلى كل ما يدور في النفس النضالية من مشاعر الوطنية والحب للوطن. نسائم الثورة الإسلامية الإيرانية التي هبت شتاء 1979 بدأت تنضّج صورة أوّلية عن هذا الإطار ازدادت وضوحاً مع الإعلان عن الوثيقة التأسيسية التي تلاها رئيس المجلس السياسي الحالي السيد إبراهيم أمين السيد عام 1985. الإطار عكس انفعالات الناس في الأرض التي احتلها العدو، واهتز له وجدان الذين عاشوا خارج تلك الأرض حين بدأوا يسمعون عن جهاد المنتسبين إليه وتضحياتهم ونشاطهم وعملياتهم البطولية في وجه الاحتلال.
الثورة الإسلامية في إيران كانت القطرة التي أفاضت الكأس، واجتياح العام 1982 فتح الباب على أولى التدابير. فيما البلاد كلها كانت معلّقة على شعار «المقاومة هي الرد… وقوافل الشهداء تصنع النصر». كأنّ المؤسّسين الأوائل كانوا يريدون أن يروا الشمس التي انتظروها بشغف طويلاً. زادت حرارة العمل. مهرجانات واعتصامات ولقاءات وأسفار إلى طهران، وحماسة الجهاد التي تملأ الناس أملاً وتفاؤلاً بلحظة قد أزفت، وبكون الخطوات تمضي موحّدة إلى المكان نفسه.
لم يظهر حزب الله فجأة، ولم يظهر نموذجه بلا مقدمات، بل كان يرتبط أشدّ الارتباط بجذور حركة الإمام موسى الصدر والسيد عبد الحسين شرف الدين، من الجهة اللبنانية، وبالسيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة، من الجهة العراقية، وبالإمام الخميني وولاية الفقيه، من الجهة الإيرانية. هذا التلازم الضروري في الخطوط والمنابع امتاز به وحده في تشكيل كينونة لا تضيق بالروافد ولا تتمسك بحصرية المشاعل. إذ سيكون القفز عنها بتراً للذاكرات والجهود والأجيال التي يجب أن يمرّ الجهاد ضد الظلم والظالمين من خلال استحضار تجربتها والإفادة من خبراتها. لكن هناك نقطة تجبر الجميع أن يتصرفوا بطريقة مختلفة. ما عاشه البعض في صفوف أحزاب دينية أو ثورية من انقسامات وانشقاقات لا يفتح أمام الأمّة أي مستقبل. معضلة تحاشي الخيبات واليأس والتعثرات يجب حلها بقوة مشتركة وبإرادة المتعاقدين على نهج مختلف.
قد يجد أي مراقب من فسيفساء الأقليات التي وفدت إلى الحزب في بدايات تأسيسه وحملت معها أنفاساً لبنانية وعراقية وإيرانية مادة للتشظي، أو أنها تجرّ بنفسها قليلاً أو كثيراً من الارتباك. لكن ذلك لم يحصل ولم يظهر ما يدل حتى على رؤى متنافرة وقراءات متناقضة للأحداث، بل لم يسمع أحد ما أنّ صراعات داخلية حادّة وعميقة تعصف بالحزب أو أنّ أخطاراً تتهدّد عمره ومسيرته وإنجازاته سوى من الإعلام الأميركي الخليجي وجرائده الصفراء. نجح السيد نصر الله، لا عبر تقنية الراعي فحسب الذي يقود الجماعة إلى حوض في صحراء، بل أيضاً عبر تقنية الحائك الذي يشابك ببراعة ومهارة السلسلة واللُحمة في النسيج ليصنع من المؤسسين والوافدين جيلاً بعد جيل قماشاً واحداً يسرّ الناظرين.
عندما سألتُ أحد القياديين السابقين عن أهم إنجاز للأمين العام، هل هو تحرير جنوب لبنان أو انتصار عام 2006 أو دحره التكفيريين، أجاب: أهم أعجوبة للسيد، وليس إنجازاً يُسجّل له فحسب، هو تمكنّه من الحفاظ على وحدة الحزب وإبقائه شعلة المسيرة متقدة كما لو أن الحزب بدأ مشواره الأمس. ولد البطل (حزب الله) بين حدثين، الثورة الإيرانية واجتياح العدو الإسرائيلي للبنان عام 1982. وولادته لم تكن من دون ذلك. ولكن بعد أربعين عاماً سيكون هو الخيط الموصل لاكتشاف أسرار المجد والعظمة، وسيكون المئة ألف مقاتل أو يزيد فيضاً لحياة جديدة وعمر أطول.
مع إطلاق حملة «الأربعون ربيعاً» جادل صحافيون مسؤولَ العلاقات الإعلامية الحاج محمد عفيف، خلال مؤتمره الصحافي، بمسألة شيخوخة الحزب. أجاب: «والله أنا والأخوة بالحزب منشوف حالنا شباب». وجّه آخرون عبر وسائل إعلامية مختلفة كل ذكائهم للتنبيه على أنّ الحزب كسائر الأحزاب دخل في سن الشيخوخة. لا يريدون أن يمنحوه درجة نجاح طالما أحزاب أخرى لم تستطع أن تُكمل عقودها الأولى إلا وهي ممتلئة بالإحباط والتشرذم
صحيح أنّ الحزب يكبر كثيراً، ولكن محيطه الذي من حوله هو الذي شاخ وتوقّف عند أوّل خطر داهم. الأحزاب عندنا لا تعمر طويلاً، تنتحر بالصفقات والمساومات والأنانيات أو تسحبها سكتة قلبية بسرعة بفعل «دهنيات ومشكلات صحية أخرى». أمّا حزب الله، فيشعر شيوخه أنهم شباب بالحوافز الإيمانية التي لا تنقطع ولا تبلى بالأيّام، وبصوت «سيّد» يحمل مصباح الأمل والفرج من بيت إلى بيت!