الشيخ الدكتور صادق النابلسي | كاتب وباحث لبناني
“عندما لم نرد على القصف الذي نفذوه، اعتبروه إنجازاً، أنّه دعونا نحيّد لبنان ودعونا نُحيّد المقاومة في لبنان، وهم أكلوا “قتلة الجماعة”، هذا يجب اليوم أن يُقرأ باستراتيجية، هذا ليس عمل زواريب لبنانية” (الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في 14 نيسان/أبريل 2023).
لم تستطع مدرسة اليمين اللبناني بكل فروعها المتعاقبة من تشكيل عقل وطني حول قضية المقاومة وسلاحها وفق أسس علمية واستراتيجية مضموناً ومنهجاً، ذلك أن الإرث الفلسطيني ما قبل العام 1982، ما زال يؤثر على البنية التفسيرية للسلاح. فما أن أُطلقت صواريخ من جنوب لبنان رداً على الانتهاكات الصهيونية للمسجد الأقصى حتى انطلقت السرديات القديمة بصيغتها الموروثة، كمية وكيفية. صحيح أنّ السلاح الفلسطيني في لبنان، في ذروة تمدده، فاقم من بؤر التوتر الداخلي، وزاد من سباق السلاح بين الطوائف، وشارك في عمليات الاقتسام والتقسيم، ولكن هذا لا يمنع أنّ الرواية بصيغتها المشهورة أصبحت تحتاج إلى مراجعة تكاد تصل إلى الأساس، لأنّ العامل الفلسطيني لم يكن الوحيد الذي صنع العملية التاريخية اللبنانية بكل تعقيداتها وتجاربها واستحالاتها، بل بمقتضى المنافسة والعداوة المحلية والخارجية تحوّل لبنان إلى ساحة هائلة تدفقت فيها آمال وطموحات ومشاريع وعقائد اتسمت بأعلى درجات الحيوية والتصادم. اليوم، وبعد بروز حزب الله كأحد أبرز الفاعلين الذين يشاركون في صنع التحولات الكبرى في لبنان والمنطقة، وبعد أن تحرّكت ساحة الجنوب بعد هدوء نسبي امتد منذ العام 2006، يستعيد البعض إشكالية السلاح الفلسطيني ويفسّر ما حصل وفقاً لنفس المنهجية والبنية المعرفية السابقة وتحت زحمة المرويّات والشعارات المقحمة من خارج الظروف والتوازنات الجديدة.
إنّ قراءة المشهد السياسي والميداني الراهن المتعلّق بمواجهة المشروع الصهيوني مع شرط المحافظة على الأدوات التحليلية التي رافقت التجربة العسكرية الفلسطينية في سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي هي قراءة متعسِفة ومضلِلة. فمنذ بدايات العمل الفلسطيني المسلح في لبنان في نهاية الستينيات الماضية، سيّجت مدرسة اليمين اللبناني نص الرواية التي أرادتها أن تهيمن على الرأي العام آنذاك بنصوص غربية –صهيونية، ووجّهته نحو الغاية التي تتمنى أن تراه عليه، على قاعدة (ما أريكم إلا ما أرى). ناهيك عن تعاملها التعسفي مع فعل المقاومة من أصله. وما زالت هذه المدرسة، بأجيالها الجديدة، مصرّة على قراءة أي حدث بعيون طائفية وبمخاوف حزبية، وذهنية سلفية، مع تجميد لدور العقل الوطني وتنحيته عن القيام بواجب الدراسة الواعية للتاريخ ولموقع لبنان من الصراع، وما ينبني على هذا الوعي من تصورات وعلاقات حماية لسيادة لبنان ونموذجه الحضاري. لم تبدِ مدرسة اليمين استعدادها لمناقشة تجربة المقاومة اللبنانية، وما إذا كانت هناك قصة نجاح حقيقية أو لا، وما إذا كانت قد برزت متغيرات استثنائية وقواعد اشتباك في العمل الميداني لا تسمح بإبقاء العمق اللبناني مفتوحاً أمام الغارات الإسرائيلية. لم تفعل هذه المدرسة إلا ما يُبلّد الفكر اللبناني بالتخويف الطائفي والرهانات السياسية. وبقيت هذه المدرسة تختبئ من فشلها بالهروب إلى التشويش والتضليل واستحضار كل فعل مشين في التجربة الفلسطينية وإسقاطه على تجربة حزب الله والادعاء بتماهي تجربة المقاومة اللبنانية مع تجربة المقاومة الفلسطينية. وقد جرت حسابات المساومات مع قوى الخارج المعادية للمقاومة على حمل جزء من اللبنانيين على الوقوف معها تحت سقف هذه الرؤية السلفية الصنمية، وهي رؤية جامحة في تصوراتها ومعاييرها واستحقاقاتها، ومقفلة على أيديولوجيا ناجزة ونهائية لا ترى مخرجاً لأزمة البلد إلا عبر التخلي عن المقاومة لصالح الدولة وتسليم السلاح لها، والاستعانة بـ”المجتمع الدولي”، للتدخل لينصر الله “شعب لبنان الضعيف”! وعلى الرغم من الوقائع التاريخية التي أسهمت إسهاماً إيجابياً في تعزيز منعة وسيادة لبنان، لم تعطِ هذه المدرسة نفسها فرصة تطوير خطابها، وأصرّت على شلّ آليات التفكير الوطني من خلال تحالفات مع الخارج تصاغ عبرها معايير لا تنطبق إلا لمن يعملون في السوق السوداء للسياسة، من دون تقديم أي رؤية واقعية، وإنما اجترار مجادلات عقيمة. وهي مجادلات تزيد من وتيرة المشاعر العدائية والسلبية وتسعى بجد إلى إحداث خروقات في بنية العقل اللبناني وزحزحته بعيداً عن طريق العقلانية والوطنية. أحدث تراكم التغييرات الكمية للمقاومة اللبنانية تفاعلات أدّت مع الوقت إلى تغيّر كيفي في قواعد الاشتباك وموازين الردع، وجعلت الكيان الإسرائيلي في أزمة شاملة، سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية وهذه حقيقة بيّنة. ثم إنّ علامات التفكك بدأت تظهر على الكيان من خلال عمق الانقسامات، عامودياً وأفقياً، وهذه حقيقة ثانية. كما أنّ القيادة السياسية الحالية للكيان فقدت توازنها وانضباطها وأصابها الدوار من سيولة التطورات التي تحاصرها ولا قدرة لها على التكيّف مع احتمالاتها الكبرى، وهذه حقيقة ثالثة. وهذه الحقائق الثلاث تستحق أن تُشاهد وأن تُقرأ بعمق تاريخي واستراتيجي، لا أن يُنظر إليها كخبر صحفي عابر. هذا مضافاً إلى التعقيدات الإقليمية والدولية التي ستُبدّل من القواعد والقوانين السابقة وتزيد من تعظيم الأزمة الداخلية، حتى إذا وصلت التداعيات والتناقضات إلى مداها يكون الكيان أمام سؤال الفكرة والتجربة والنظام والعمر وما العمل؟
وبالطبع، هذه القضية لا يمكن أن يعالجها الصهاينة بشعارات وإنما يلزمها شيء آخر يكون قد فات أوانه تماماً. وهذا ما يُفترض أن يكون محل ترحيب عند اللبنانيين، عندما يشاهدون عدوهم ينازع الموت ولا يجد مَن يُعينه لا من أهله ولا مِن أصدقائه. وإذا كان كل العالم الإسلامي والحر ينتظر زوال هذا الكيان، فالمفروض أنّ الشعب اللبناني قبل غيره ينتظر. ينتظر هذه اللحظة للخلاص من القوة الغاشمة. من الشر المطلق. من الاعتداءات والتهديدات والضغوط. ينتظر ليحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أرضه فلا أحد بعد ذلك يتحدث حول التغيير الديموغرافي والأكثرية والأقلية. ينتظر لزيادة النشاط الاقتصادي وتملّك موارد الطاقة في البحر، وإذا استطاع ذلك فإنّه سيكون بمقدوره خلال سنوات أن يحل أزماته المستعصية. فعندما تُقدم المقاومة على خطوة من نوع ما، معلنة تفاصيلها أو كاتمة لها، فهي خطوة محسوبة لها ما وراءها. أي أنها جزء من مخطط كامل يجب أن يُفضي إلى تحولات قاطعة ونهائية. وليس الأمر كما كان يحصل في الماضي عندما تجري الحروب من دون استعداد وتخطيط كاف، أو عندما كان كل فصيل فلسطيني يسير في طريقه لوحده من دون أي تنسيق مع بقية الفصائل حول ضرورة أي خطوة ميدانية أو حول مستقبل التطورات. ولكن، لو أمكن لكل الذين اعترضوا على إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان أن يعثروا على أسلوب وطريقة لدفع الاعتداءات الإسرائيلية عن لبنان. لو أمكن، بخبرتهم السياسية أو العسكرية، أن يكتموا على المقاومة تحركاتها أو إخفاءها لنواياها، كما يفعل مجتمع وأحزاب الكيان عندما يتعلق الأمر بالأمن والوجود والإجراءات الحربية. لو أمكن أن يساعدوا على وضع خطط سرية كتلك الدول التي تعمل بوطنية مطلقة لحماية مصالحها من دون التخوّف من حساسيات وصغائر وتكهنات وشائعات وارتهانات مذهبية وسياسية. ولو أمكن أن يشاهدوا تآكل الكيان، وأنّ أحداً من قادته لا يستطيع ببساطة أن يعيد الغطاء إلى الإناء الذي يغلي، وأنّ موجة المد (من محور المقاومة) آتية، وأنّ على كل شعوب المنطقة فتح أبواب التعاون، ليتدفق التيار أسرع، لأنّ ما بعده يحمل كل الخير للبنان لحل جزء مهم من مشاكله. نحن في دنيا لم يعد في مقدور أحد أن يعتمد على شعارات وأيديولوجيات فارغة حول فلسطين والدفاع عن لبنان من دون أفعال محسوسة. كل الحقائق باتت عارية أمام كل الناس. والناس تعرف مَن يعمل للدفاع بصدق عن لبنان وموارده وترابه وإعادة اللاجئين، ومَن يتاجر ويقيم أحلافاً للطائفية والتقسيم والفوضى!
السؤال لكل المعترضين هو لماذا علينا كلبنانيين وإزاء أي إجراء يقوم به المقاومون، إلى أي جهة انتموا، أن نكشف ما يريد المقاومون إخفاءه وتمويهه، فلندع العدو يأخذ وقته في الاستنتاج. ولندعه يعرف أنّ كل ما حدث هو في إطار التعامل الطبيعي والعادي معه. دعونا لا نعلّق إلا على قاعدة ” ترك الجواب جواب المقال”. وإذا كان صحيحاً أنّ عملية إطلاق الصواريخ وقبلها عملية “مجدو” قد رفعت درجة المواجهة إلا أنّ القاعدة التي تقف عليها المقاومة اليوم هي قاعدة صلبة ليس فيها تراجع وانسحاب. ومن ينكر الحقائق المستجدة كمن ينكر الشمس وهي في رابعة النهار! مع كل تطور عسكري بين المقاومة وكيان العدو نكون بالفعل أمام مشكلة عويصة لا نستطيع أن نتصور لها حلاً طالما أنّ هذه “المدرسة – المنظومة” تمسخ نفسها على الطريقة (الزيلينسكية)، وترفض أن يكون لبنان قوياً في وجه العدو الإسرائيلي، وتسعى لمنع كل فرصة من شأنها أن تجعل لبنان متفوقاً على كيان العدو عسكرياً (استراتيجياً وتكتيكياً)، وتريد الارتباط بأوضاع قديمة أو بسياسات قديمة أو التعهد لأمريكا ودول أخرى بسياسات جديدة يرفع لبنان من خلالها تحفظاته بشأن التعامل مع العدو. هذه المنظومة – المدرسة تضيّع الوقت كل يوم بقضايا خاسرة، من دون أن تكون قادرة لا على التصور أنّ لبنان في حالة جديدة ولا على الاستيعاب أنّ ساعة القيامة.. قيامة “إسرائيل” باتت وشيكة. تبقى هناك مفارقة مهمة لا بأس بالإشارة إليها لمن يسأل من الزيلينسكيين اللبنانيين عن الفرق بين الأمس واليوم في ما يتعلق بهوية المقاومين على جبهة الجنوب وهي، أنّ الفدائيين الفلسطينيين كانوا يقاتلون وعيونهم في ظهورهم، بينما مجاهدو حزب الله يرمون ببصرهم أقصى القوم، يقاتلون وعيونهم على فلسطين!