كتب الدكتور محمد سيف الدين | توتّر عالمي.. الجميع مستنفرون
الدكتور محمد سيف الدين | متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي والعلاقات الروسية الأطلسية.
في أسبوعٍ واحدٍ فقط، تتجمع مؤشرات اقتصادية وسياسية بالغة التأثير في المشهد العالمي. “أوبك+” تخفض إنتاجها من النفط، على الرغم من التهويل الأميركي والتهديد من صقور الإدارة الأميركية للسعودية. ليز تراس تستقيل من منصبها كرئيسة للوزراء في بريطانيا التي تدخل نفقاً اقتصادياً حالكاً، يرى خبراء أنه قد يكون بداية انهيار مالي كبير يبدأ من لندن ويعم دولاً أخرى.
الخلافات الألمانية-الفرنسية تخرج إلى واجهة المشهد الأوروبي. تنفجر العلاقات على شكل تصريحاتٍ متوترة واتهامات ومصالح متنافرة، على وقع اشتداد وطأة الأزمة الأوكرانية على الفضاء الأوروبي. وفي الوقت نفسه، يعاني الرئيس الأميركي جو بايدن في سعيه لتأمين أغلبية لحزبه في الانتخابات النصفية، تمكنه من إكمال ولايته كرئيسٍ فاعل، وتجنبه خسارة أظفاره قبل سنتين من ترك البيت الأبيض لخليفته الذي لم تتبلور صورته بعد، بل لم يعد معلوماً أيّ أميركا سوف يحكم، نظراً إلى التبدلات الكبرى التي تشهدها العلاقات الدولية اليوم، والصراع الكبير الذي دخلت فيه واشنطن وحلفاؤها في مواجهة موسكو، والمرشح إلى التوسع على الضفتين.
وفي الشرق الآسيوي، حيث مربط الفرس في الصراع على قمة العالم، يحسم الرئيس الصيني شي جين بينغ مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني بإحكام سلطته، ليس لخمس سنوات جديدة فحسب، بل إنه يتمكن من حسم التباينات الداخلية، ويخرج حاملاً تعديلين كبيرين سيدخلان الدستور؛ تحويل الصين إلى قوةٍ عسكرية عالمية القدرة، ومنع استقلال تايوان دستورياً.
الخلاف الفرنسي الألماني
قبل السياق المتفجر الذي أوصل إلى الحرب الأوكرانية، وتحديداً عندما كانت أنجيلا ميركل تقود ألمانيا بقوة، ومعها تقود الاتحاد الأوروبي اقتصادياً، كانت العلاقات الأوروبية البينية تشهد حداً معقولاً من التضامن والتوازن عند القيام بخطوات لمعالجة المشكلات الاقتصادية التي تطرأ. نسب الفائدة، وضخ السيولة، والعقود الكبرى، كانت كلها مسائل تناقش بين الحلفاء الأوروبيين، بحيث لا تحدث تدابير كل دولة آثاراً سلبية في بقية الدول.
اليوم، يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن ضخ ألمانيا 200 مليار يورو في اقتصادها لمعالجة أزمة الطاقة يعبر عن سياسة وطنية ألمانية، وليس عن سياسة أوروبية. هذا يعني أن هذه المعالجات الألمانية لأزمة موارد الطاقة التي تشهدها البلاد، والتي تهدد أكبر اقتصادٍ في أوروبا، تؤثر سلباً، وبصورةٍ حادة، في الاقتصاد الفرنسي.
في المقابل، ترى برلين أنَّ الأضرار التي تعرض لها اقتصادها جراء الأزمة الأوكرانية تستدعي هذه التدابير الوطنية؛ فهي أكثر الدول الكبيرة في أوروبا اعتماداً على الغاز الروسي قبل الأزمة، وهي التي وصل معدل التضخم فيها إلى 10%، واقتصادها ركنٌ أساس في حماية وحدة الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإنها تجد الضرورة حاكمةً في هذه اللحظة بأن تداوي نفسها.
يطلب أولاف شولتس في هذا السياق من باريس المساهمة في إعادة إحياء خط الغاز الأوروبي الجنوبي “ميدكات” الذي يربط البرتغال وإسبانيا بفرنسا وألمانيا. همه الأول الآن تأمين إمدادات الغاز، وليس أسعارها، على عكس ماكرون الخائف من الأسعار أكثر من الإمدادات، نظراً إلى الاعتماد المنخفض لبلاده على الغاز الروسي في المرحلة السابقة للأزمة.
لذلك، يرفض شولتس إلحاح ماكرون على دعم برلين وضع سقف لأسعار الغاز، ويرى أن تسقيف سعر الغاز سوف يؤدي بالضرورة إلى تعثر الإمدادات في الدرجة الأولى، ثم المزيد من ارتفاع الأسعار، وهو ما يكرره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً.
كان هذا المناخ سائداً خلال اجتماع القادة الأوروبيين في بروكسل الأسبوع الفائت، والذي كان مخصصاً لبحث إستراتيجية مشتركة لمواجهة الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة في ظل إفرازات الأزمة الأوكرانية.
وقد اختتم الاجتماع بإعلان ماكرون أن بلاده ستنسحب من المعاهدة المؤسسة للميثاق الدولي للطاقة، مرجعاً القرار إلى أن تلك المعاهدة الموقعة عام 1994 “توفر حماية مفرطة للوقود الأحفوري، وتتعارض مع أهداف اتفاقية باريس للمناخ”، موضحاً أن الانسحاب من الميثاق كان “خطوة مهمة طلبها الكثيرون”.
الآن، تواصل أزمة الطاقة في أوروبا تفاعلاتها. في فرنسا، أزمة عرض للوقود الأحفوري تعززها إضرابات عمالية في شركتين كبيرتين من شركات البترول الفرنسية. ومع أنّ الوضع لا يزال تحت سيطرة الإليزيه، يتخوف ماكرون من تفاعلات غير محسوبة على مدى الأشهر المقبلة، خصوصاً مع توالي انهيار حكومات أوروبية في جواره (بريطانيا وإيطاليا مثلان قد يسرعان أثر الدومينو…)، وتصاعد شعبية اليمين من حوله في فرنسا وخارجها. ويزيد من إلحاح الموقف على ماكرون للتحرك أن حكومته محاصرة أيضاً بمطالب متعاظمة لإسقاطها في البرلمان، وسط تظاهرات حاشدة احتجاجاً على ارتفاع الأسعار والتضخم.
ثمة نقطة خلاف أخرى تزيد توتر العلاقات الفرنسية-الألمانية؛ فألمانيا و13 دولة أطلسية أخرى قررت اعتماد نظام دفاع جوي أميركي-ألماني-إسرائيلي، بدلاً من “نظام القتال الجوي المستقبلي” الذي تطوره فرنسا وإيطاليا.
لا شكّ في أن ذلك يمثل رشّاً للملح على جرح باريس الذي لم يشفَ بعد إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية العام الماضي، واستبداله بصفقة كبرى مع الأميركيين، وتأسيس تحالف “أوكوس” العسكري في الوقت نفسه.
تشعر باريس مجدداً بأن حلفاءها الكبار في الغرب يعلون مصالحهم بصورةٍ أنانية مبالغ بها على حساب الروح التحالفية ضمن المنظومة الأطلسية. بالأمس، الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، واليوم ألمانيا. وفي اللحظة نفسها أيضاً، النرويج والولايات المتحدة مجدداً، اللتان تبيعان الطاقة لفرنسا بأربعة أضعاف سعرها المعطى لشركاتهم الوطنية. هذا ما دفع الرئيس الفرنسي إلى رفع صوته والمجاهرة بأن هذا التعامل لا يعبر عن الصداقة بين بلاده وتلك الدول.
يحدث ذلك في خضم أزمة طاقة كبيرة كانت فرنسا تأمل التعاطي معها وفق قواعد التحالف الاستراتيجي الذي يفترض تكاتف التحالف الأطلسي في مواجهة روسيا، لكنها عوملت كمشترٍ أجنبي، ووفق سعر السوق المرتفع، في الوقت الذي شاركت في فرض العقوبات، وأهدرت فرصاً كانت لتحقق لها مكاسب كبرى مع الروس.
في المحصلة، الأوروبيون بالمجمل باتوا يدركون أنهم سيدفعون ثمن الصراع الكبير، وأن واشنطن تستخدمهم مرة أخرى في معركتها الكبرى، لكنهم مرتبطون بضرورات الحماية الأمنية الاستراتيجية التي تسوق واشنطن على الدوام أنها توفرها للفضاء الأطلسي، وأنه بدونها سيكون بلا شكٍ تحت سيطرة موسكو. هذا الإدراك يدفع كلاً منهم إلى التفكير في النجاة الذاتية وطنياً، وبشكلٍ حمائي، دوناً عن حلفائه، وهذا تهديدٌ حقيقي لوحدة الاتحاد الأوروبي تحديداً، والآن أكثر من أي وقتٍ مضى.
أزمات غرب الغرب
وفي غرب الغرب، تدخل بريطانيا نفق أزمةٍ مالية تنذر بقرب انهيار هرم الديون، مع تعثر حزب المحافظين في إنتاج رئيس للوزاء قادر على تصحيح الموقف. لقد بات الموقف أكثر صعوبة، وربما أكبر من قدرة الديمقراطية البريطانية الذائعة الصيت على امتصاصه، خصوصاً أن انسحاب ليز تراس من رئاستي الحزب والحكومة جاء بعد 9 أسابيع فقط من وصولها إلى السلطة.
في الضفة الأخرى للأطلسي، يواجه بايدن مصاعب ليست أقل تهديداً لرئاسته. الانتخابات النصفية وصلت، وأرقام الحزب الديمقراطي لا تبشر بالخير. في المقابل، يرتفع التضخم إلى مستوى تاريخي سيفضي إلى تهديد أكثر استراتيجية عندما يطال قوة الدولار. وإذا ما قرر الفيدرالي المزيد من التدخل في أسعار الفائدة، فإنه سيزيد سرعة الأزمة، إذ ستؤدي أسعار الفائدة إلى خنق الاقتصاد من ناحية، وإفلاس المدينين من ناحيةٍ ثانية، وبالتالي تتوسع أزمة الدائنين التي لن تتوقف عند حدود أميركا.
شي يحسم.. يراقب تايوان ويترقب واشنطن
هذه ليست كلّ بواعث القلق؛ فهذه الأيام ملتهبة في العلاقات الدولية. تزيد من مضاعفاتها أزمة تقترب من الانفجار في تايوان. المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني يمنح السيطرة الحاسمة للرئيس شي جين بينغ، ويستبعد لي كه تشيانغ وقادة آخرين من قيادته. ضَمِن الرئيس شي ولايةً جديدة لـ5 سنوات، لكنه ربح مكاسب أكثر قيمة بالتفاف حزب المئة مليون عضو حول قيادته ومشروعه وأفكاره. بات الآن أكثر القادة تأثيراً واستدامةً منذ ماو تسي تونغ مؤسسة الدولة الحالية.
وقد أضاف في ختام مؤتمر الحزب عنوانين جديدين إلى عنوانين أعلنهما العام الماضي في استراتيجية الصين الخمسية. الإضافتان كانتا إدخال منع استقلال تايوان عن الصين في الدستور الصيني، وتحويل الجيش الصيني إلى قوة عسكرية عالمية المستوى، فيما كان العنوانان السابقان ضمن الاستراتيجية: أولاً، تحويل الصين إلى سوقٍ استهلاكية داخلية، وهو ما يعني إيجاد سوقٍ هائلة ضامنة للنمو الاقتصادي، لكن في الداخل الصيني. وثانياً، تحقيق السيادة التكنولوجية، أي الاستغناء عن التكنولوجيا الغربية بصورةٍ كاملة.
في المحصلة، الجميع متأهب للمواجهات المشتعلة، وتلك المنتظرة. لا انفراجات قريبة قبل انقشاع الدخان عما خلفته الانفجارات الجيوسياسية والاقتصادية التي لا تتوقف. الشعوب تعاني، والحلول لا تزال قاصرة أو مؤجلة.