استراتيجياكتاب الموقع

كتب الدكتور احمد عز الدين | في توصيف ما يحدث شرقا – اسباب واهداف العملية الروسية

الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية

من المؤكد أن الجيش الروسي قد أمسك بأغلب عناصر (المبادرة الإستراتيجية) التي انتزعها بالقوة المسلحة دفاعا عن الأمن القومي لبلاده ، في مواجهة تهديد أقرب إلى أن يكون حالا ومؤكدا ، شكّل بؤرة مضادة متعددة الأسلحة كان يجري على قدم وساق شحنها ودفعها في فضاء الدفاع الروسي .
إن ذلك قد يعني أن انتزاع المبادرة الإستراتيجية روسيا في هذا الفضاء قد نجحت وحققت أهدافها المباشرة، لكنه لا يعني أن التوازن الجديد الذي صنعته القوة المسلحة حتى الآن قد أصبح ثابتا ومستقرا بشكل نهائي ، فحسابات الاحتمالات ما تزال مفتوحة حول ما يحيط به .
لذلك فإن ما ينبغي تقديمه الآن قبل حسابات الاحتمالات الخاصة بالمرحلة التالية هو إعادة توصيف ما حدث شرقا ، على نحو يكشط قشرة الوهم أو الإيهام التي تمت محاولة لصقها ، كأنها غمامة على أعين الناس هنا وهناك ، من قبل وسائل إعلام أجنبية وعربية ، ومن قبل كُتاب وسياسيين وخبراء إستراتيجيين أجانب وعرب ، لا يرون إلا من مناظير غربية خالصة .
أولا : لقد تعمد الغرب كله في كافة خطاباته السياسية والإعلامية ، أن يصف هذه الحرب بأنها ( حرب بوتين ) فقد أصبحت المعادلة التي يسوقها هي بوتين على جانب ، والدولة والشعب الروسي على جانب آخر ، وكأنها حرب فرد هو الذي ينفخ منفردا في رياحها الشرقية الحارقة ، ولو سقط أو أُسقط منفردا من المعادلة ، فسوف تهدأ هذه الرياح ، بل لقد ترجم ذلك أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي إلى دعوة علنية لاغتياله ثمنا لإيقاف الحرب .
والحقيقة أن ذلك يشكّل جانبا من قشرة الوهم أو الإيهام ، فهي ليست حرب بوتين رغم أنه صاحب التصديق على قرارها،ولكنها حرب منظومة القوة الروسية ، أو بمعنى أدق حرب الجيش الروسي ، الذي يتسلح بعقيدة قومية ، لم تنسخها المتغيرات ، ولم تأكل منها عاديات الزمن .
لقد أُجبرت الإمبراطورية السوفيتية بعد تفككها على تغيير علمها الأحمر ، لكن الجيش الروسي رفض تغيير هذا العلم ، وأصر على بقائه عاليا فوق رأسه ، ولم يكن ذلك من قبيل التعنت أو الحنين إلى الماضي ، بقدر ما كان تعبيرا عن قناعتين راسختين : التمسك ببقاء عقيدته القومية ، والتمسك بدوره التاريخي ، وبالمجد الذي صنعته دماء المقاتلين تحت هذه الراية ، بل لقد بادر الجنرالات القدامى في أوج انهيار الإمبراطورية إلى تشكيل نقابة للعسكريين الروس ، تضم العاملين في الخدمة ومن هم خارجها ، وما يزال تأثيرها باقيا في الدولة الروسية وفي البرلمان الروسي ، ولذلك إذا كان الغرب قد تعمد أن يضع بوتين وحده في دائرة الخطر عليه ، فإنه يدرك بعمق أكثر أن الخطر الأكبر ما يزال كامنا في بنية الجيش الروسي ، وهو لا ينسى أن التحرك العسكري لهذا الجيش في عام 2014 نحو لوجانسيك ودونيسك قد استبق القرار السياسي له بالتحرك .
إن الواجب الأول للجيوش القومية ، هو الدفاع عن الأمن القومي ، ونفي أي تهديد يواجهه بالقوة المسلحة ، ولذلك فإن إدانة جيش يتحرك لانتزاع المبادرة الإستراتيجية في مواجهة التهديد ، ليس عملا يتسلح بمفاهيم رشيدة للأمن القومي ، مهما تذرعت الإدانة بأسباب واهية لقانون دولي ، لم يعد محلّ احترام ، بل محلّ احتقار وتخريب متعمد ومتراكم من قبل الغرب عموما ، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا .
ثانيا : هل نحن بصدد عدوان عسكري روسي على دولة مجاورة ؟
لا أعتقد أن ذلك يمثّل توصيفا صحيحا ، لأن استخدام القوة المسلحة في هذه الحالة تحديدا ، إنما يمثّل تعبيرا مباشرا عن أحد أبعاد نظرية الردع ، وبدونه تسقط النظرية برمتها .
لقد طلب الرئيس بايدن في بداية عام 2021 ، مراجعة إستراتيجية للوضع العالمي ، وقدم البنتاجون بناءا على ذلك وثيقة تفصيلية ، تضمنت بنود هذه المراجعة ، وما يترتب عليها بالنسبة لتوجهات وأوضاع الجيش الأمريكي حول العالم ، وقد استبق بايدن صدور وثيقة المراجعة ، في فبراير 2021 ، بقرار يتضمن إلغاء سقف القوة العسكرية النشطة في ألمانيا ، والتي حددت الإدارة الأمريكية السابقة قوامها ب 25 ألف جندي .
والحقيقة أن وثيقة المراجعة ظلت بعد صدورها داخل حيّز من السرية باستثناء بندين اثنين ، قام البنتاجون بتسريبهما وهما :
الأول: ( تقوية الرادع القتالي ذي المصداقية ضد العدو الروسي في أوربا ، وتمكين قوات حلف الأطلنطي من العمل بجدية )
الثاني: ( تعزيز الجيش الأمريكي لعمليات الانتشار والقواعد الموجهة نحو الصين وروسيا مع الاحتفاظ بقوات كافية في الشرق الأوسط ) .
وقد كانت الإشارات بالغة الوضوح عبر التوجه الإستراتيجي الأمريكي وفق هذين البندين ، قبل أن تبدو على الأرض علامات أكثر حسما ووضوحا ، فقد توسعت وتمددت مكاتب المخابرات الغربية في أوكرانيا ، بل إن مكتب مخابرات الناتو في العاصمة الأوكرانية ، أصبح يضم أعدادا من العاملين أكثر مما يضمهم المكتب الرئيسي له في بروكسل ، ثم تواترت معلومات حول خطط الناتو لنشر عدة ألوية عسكرية في الداخل ، في الوقت الذي ظلت فيه النخبة الحاكمة في أوكرانيا ، تبدي وجها شديد العداء لموسكو ، وتتصرف كنخبة عميلة لكل خصوم روسيا في الغرب ، بما في ذلك قيامها بأنشطة مشبوهة بعضها مضاد عسكري الطابع ، وبعضها في إطار أعمال سرية داخل مفاعل شرنوبل ، تبين بعد ذلك أنها تستهدف بناء قنبلة نووية قذرة ، وبعضها في إطار تعبئة للكتائب النازية المتطرفة وتحويلها إلى واجهة للجيش الأوكراني ، ومخلب لأعمال عدائية ، وقد أوضح جانب من المعلومات الروسية المعلنة أن هذه الكتائب كانت تستعد لعملية عسكرية في دونباس قبل يوم واحد من الفتح الإستراتيجي الروسي .
واستباقا لهذا التوقيت ، كانت تركيا ترسل مددا متصلا من طائراتها المسيرة إلى كييف ، بينما كان الأمريكيون في الشهور الأخيرة من عام 2021 قد انتقوا من داخل تنظيم داعش أعدادا من الإرهابيين من مواطني روسيا والبلاد المجاورة ، وتم إرسالهم إلى قاعدة التنف ، التي تسيطر عليها الولايات المتحدة على الحدود السورية العراقية ، حيث تم إخضاعهم لتدريبات على أعمال التخريب والإرهاب استعدادا لنقلهم بعد ذلك إلى مدينة دونباس .
في المحصلة النهائية ، فنحن بصدد حرب ذات طابع هجومي ولكنها في جوهرها حربا إجهاضية ، هدفها الإستراتيجي هو نفي تهديد أقرب إلى ان يكون حالا ومؤكدا .
ثالثا : بعيدا عن تلك التفسيرات التي تُرجع أسباب الحروب الكبرى إلى أحداث أو ظواهر أو وقائع تبدو صغيرة وعابرة ، على غرار تفسير نشوب الحرب العالمية الأولى بحادثة قتل ، فإن أسباب اندلاع الحروب تبدو في الواقع كأسباب حدوث الزلال ، تفاعل عميق وعريض وطويل ، يضع مركّباته النهائية في حالة صدام وانفجار ، أما الحيّز الأساسي لهذا التفاعل أو الصراع ، فيدور حول قطبين أساسيين هما : القيم والمكانة .
لقد تغذت مقدمات الحرب العالمية الأولى على حالة من التنافس الشديد بين قوتين هما بريطانيا وألمانيا ، ولم يكن واضحا أن هذه الحالة يمكن أن تنتهي إلي صدام وصراع ممتد ، لكن العنصران اللذان حكما تفاعل الصراع ، ثم قادا إلى الصدام والحرب ، هما القيم الألمانية في مواجهة القيم البريطانية ، والمكانة الألمانية الصاعدة بقوة في مواجهة المكانة البريطانية ، التي أحست أنها أصبحت تحت التهديد ، وبينما كان الصعود الألماني يعود إلى تدخل الدولة وقيم الجيش ، كان الصعود البريطاني يعود إلى عكس ذلك تماما ، غياب تدخل الدولة وقيم الليبرالية ، التي لم تكن بعد قد تحولت إلى ليبرالية متطرفة ، تحت مسمى الليبرالية الجديدة .
هل هناك ما يشي بأن أسباب الصراع ، هي نفسها أسباب الصراع في حدود القطبين الأساسيين السابقين ، وهما القيم والمكانة ؟
نعم ، أما في حدود الطبيعة الخاصة بالقيم والمكانة ، حاليا فلا .
لقد قطعت موسكو طريق الصندوق والبنك الدوليين إليها ، قبل أكثر من خمسة عشر عاما ، وأمّنت لنفسها اعتمادا على الذات ، في مجمل احتياجاتها ، تصل إلى نسبة 43% بينما لم تتجاوز هذه النسبة في الولايات المتحدة 27% ، في الوقت الذي ما تزال صواريخ الفضاء الأمريكية تُصنع بشكل كامل في مصنع صواريخ الإتحاد السوفييتي السابق ، الذي مازال قائما في أوكرانيا ، ثم طورت روسيا منتوجها العسكري الصناعي في شكل طفرات متتالية ، وأحسب أنها حسمت توازن الردع لصالحها في ديسمبر عام 2019 ، مع نجاح إطلاق صاروخ افانجارد .
إن روسيا لم تعد شيوعية ، أو إشتراكية ، لكن قيم الدولة والجيش لم تسمح لقيم الليبرالية الجديدة أن تحل محلها ، وإلا لذهب الجيش الروسي إلى حيث لا ينبغي له أن يذهب ، وربما يبدو الفارق بين الحالتين أن قيم الليبرالية في الحالة الأولى كانت في أوج ازدهارها ، بينما دخلت قيم الليبرالية الجديدة فعليا في أزمة هيكلية مستحكمة ، تلقي بظلالها القاتمة على العالم بأسره ، وتجره معها فوق منحدر من الديون ، والركود ، والحروب ، والفوضى .
إن ما سبق كله في الحقيقة هو رد على بعض اللذين وجهوا الرأي العام الوطني والقومي ، في اتجاهات إما أنها مضللة ، وإما أنها صحيحة ولكنها جزئية الطابع ، على نحو لا يساعد على رؤية الحقيقة الكلية .
على الجانب الأول هناك – على سبيل المثال – من ادعى فوق إحدى الشاشات المصرية ، أن الحرب برمتها ليست سوى تعبير عما يحمله بوتين من ثأر تجاه الغرب منذ تفكك الاتحاد السوفييتي ، وكأننا أمام حرب بين عائلتين في صعيد مصر .
وعلى الجانب الثاني هناك – على سبيل المثال أيضا – من وضع الصدام برمته في دائرة الغاز الروسي ومشروع نوردستريم2 كمركز للدائرة ، ولا سبيل إلى إنكار أن الطاقة هي عنصر هام في هذا الصراع ، ولكنها وحدها لا تصلح تفسيرا وحيد الجانب له .
رابعا : تبقى وجوه وأصوات أخرى ممن يطلون على الناس عبر المنصات الإعلامية هنا وهناك ، وهي في مجملها لا تضيء الرؤية ، بقدر ما تثير فيها سحبا من الدخان ، فليس ثمة خطأ في حسابات بوتين لأنها تمثل ترجمة صحيحة لعقيدة الجيش الروسي ، ولنظرية الردع ، وروسيا لم تدخل في فخ كما يقولون ، ولكنها اختارت أن تفكك فخا زمنيا كان مقدرا له أن ينفجر في جسدها القومي بعد قليل ، والجيش الروسي لم يتأخر في حسم معركته كما يدعون ، لأن ميدان المعركة يساوي ضعف حجم مساحة العراق ، ولأن التوجه العسكري الروسي في مجمله ، لا يتقدم بمنطق الهدم والتدمير ، وإنما بالجراحات الدقيقة ، وبالسيطرة الميدانية ، وبالإمساك بالمفاصل الحاكمة ، وبمستوى جديد وعناصر مستجدة من معركة الأسلحة المشتركة ، بل أنني أحسب أن الناتو نفسه يستمتع مجبرا ومتألما بتلك القطعة المتقدمة من التخطيط العسكري، التي يقدمها الجيش الروسي في الميدان ، إن الطفرة لم تحدث في تكنولوجيا السلاح وحدها ، وإنما طالت التفكير والتخطيط على المستويين الإستراتيجي والتعبوي .
إن ذلك ليس حديث محب أو كاره ، وإنما حديث دفاع عن الدولة القومية في وقت شدة وزلزلة ، سواء في مواجهة أولئك الذين صاغوا نظرية يقول منطوقها : ( إن الفوضى سيئة ، ولكن النظام أكثر سوءا ) أو سواء في مواجهة غيرهم ممن يرون ( أن خسائر القعود أقل من خسائر الهجوم ) ، ذلك أن ثمة حقائق جديدة تبزغ في آفاق الدنيا ، كأنها شلالات ضوء تخطف الأبصار ، ولكن بعضنا لا يريد أن يراها ، إما لأنه لا يملك جديدا ، وإما لأنه لا يعرف بديلا ، وإما أنه لا يستطيع رجوعا .
(وللحديث بقية) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى