كتب احمد الدرزي | سوريا والمشرق.. لعنة الجغرافيا أم دُرَّتها؟ (3-3)
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
على الرغم من اكتشاف الرئيس الأسد مخاطر هشاشة الجغرافيا السورية، قبل بدء الحرب عام 2011، ودعوته إلى إقامة مشروع “البحار الخمسة” للدول المتشاطئة على بحار قزوين والأسود والأبيض المتوسط والأحمر والخليج، فإن هذا المشروع جاء متأخراً، إذ لم يستطع السوريون اكتشاف فضائهم الحقيقي، وخاصةً بعد عام 1963، وسيطرة أصحاب الدعوة إلى الهوية القومية العربية على السلطة السياسية منذ ذلك التاريخ، ممثلين بحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي عجز حينها عن فهم طبيعة الجغرافيا السورية، ونتائجها التاريخية والديموغرافية.
عمل الحزب على إخراج سوريا من سياقها التاريخي الطبيعي، والذي كانت في أغلبه جزءاً من إمبراطورية كُبرى، أو ساحة لصراع الإمبراطوريات، والذي يتمثل حالياً بالصراع الدولي والإقليمي الكبير، لينفجر الصراع الداخلي بين مستويات متعددة من صراع الهويات بشكل متداخل بين الإثني والديني والمذهبي، بتحريض واستثمار واضح من نظام الهيمنة الغربي.
عبّر ذلك عن العجز عن إنتاج هوية وطنية جامعة للسوريين على أسس المواطنة، وعودة ظهور الهويات العابرة للحدود، ما مهّد الطريق لكل من تركيا وقطر والسعودية و”إسرائيل”، للتدخل في الحرب السورية بقصد التدمير والتخريب، لتحويل الاصطفاف الجيوسياسي لسوريا، أو بقصد الدفاع عن أمنهم القومي كحال إيران وروسيا والصين، وهي الدول المُستهدفة بالثورات الملوّنة بعد سوريا في حال نجاحها.
وتختلف ظاهرة الانفجار الثانية المستمرة منذ عام 2011 عن ظاهرة الانفجار الأولى في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث كان الصراع الحقيقي في مستويات ثلاثة: الأول دولي بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، ضمن أجواء الحرب الباردة، المنضبطة بقواعد التوازن والاشتباك بين القوتين الدوليتين، والمستوى الثاني إقليمي بين سوريا من جهة و العراق والأردن والسعودية ومصر، بعد توقيعها على اتفاقية “كامب ديفيد”، من جهة ثانية، والثالث هو المستوى الداخلي، الذي حمل بواجهته الظاهرة صراع حركة “الإخوان المسلمين”، الموالية للعراق والأردن وتركيا، ومن فوقها الولايات المتحدة الأميركية، مع “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الذي يعدّ نفسه جزءاً من دائرة الحماية السوفياتية. ولكن، من يغور في المسألة يجد أن الصراع على المستوى الداخلي، كان متعدّد الأوجه، تتداخل فيه العوامل المحلية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأحد تلك الأوجه الصراع بين الهويات المدينية والهويات الريفية، باستخدام أدوات مذهبية.
فيما كان الانفجار الثاني عام 2011 أشد وطأة بما لا يُقاس مع الانفجار الأول، بفعل انهيار الاتحاد السوفياتي من جهة وتفرد الولايات المتحدة بنظام القطب الواحد، وقد أتى هذا الانفجار في سياق متغيّرات دولية غير متوازنة، بعد أن استطاعت القوى الآسيوية، وهي روسيا والصين وإيران بشكل أساسي، ومن بعدها الهند بشكل ثانوي، إثبات قدرتها على مواجهة نظام القطب الواحد، والتأسيس لبناء نظام دولي جديد، ما انعكس على شدة المواجهة في سوريا، بعد أن تدخلت إيران وروسيا والصين، بشكل أساسي لمنع انهيار سوريا، وسقوطها تحت هيمنة الولايات المتحدة.
دفع هذا بالصراع إلى المستوى الأعلى، إذ دخلت القوات الروسية والإيرانية كقوتين دولية وإقليمية بدعوة من الحكومة الرسمية في دمشق، لمواجهة التدخل الدولي الواسع، الذي تديره الولايات المتحدة كقوة دولية ومعها الاتحاد الأوروبي وبعض دول الخليج و”إسرائيل” كدول إقليمية.
ولكن اللافت للنظر على المستوى المحلي، وعلى الرغم من حدة الخطاب المعارض، إن كان سياسياً أو إعلامياً، بين الإسلاميين بشتى أنواعهم وبين السلطة السياسية، فإن الصراع المحلي الداخلي كان بين هويات ريفية مختلفة، مع بقاء المدن الكبرى على الحياد، أو الاصطفاف إلى جانب دمشق بحيادها، في نزاع على السلطة السياسية، كوجه للصراع الجيوسياسي حول سوريا، على الرغم من ارتباط الطرفين بقوى إقليمية ودولية متناقضة، وهذا ما جعل الصراع وحشياً بما لا يقاس مع الانفجارات السابقة.
بقدر ما كان تنوع النسيج الاجتماعي السوري إيجابياً، في مرحلة التأسيس الأولى منذ عام 1918، فإن فشل استيعاب هذا التنوع لعب دوراً أساسياً في تعميق الكارثة السورية الحديثة، بدءاً من عام 1958، بعد أن سيطر على عقل السياسيين السوريين هاجس الحفاظ على خياراتهم السياسية والاقتصادية، والعمل على تشكيل هوية قومية بالمعنى الأيديولوجي، كمظلة جامعة للسوريين، الذين تتداخل فيما بينهم الهويات؛ إثنية ودينية ومذهبية متباينة، تتقاطع كدوائر في أماكن، وتتنافر في مواقع أُخرى، ما يجعل من هوية سياسية محددة عبئاً على الاجتماع السوري، ويتيح للقوى الإقليمية المحيطة بسوريا التدخل المباشر عبر الهويات الممتدة إليها من سوريا.
وعلى الرغم من مضي قرابة 12 عاماً على الحرب السورية، فإن الأمل بقرب انتهاء هذه الحرب ما زال غير قابل للتنبؤ حتى الآن، نظراً لتعقُّد الحرب فيها، وارتباطها بمجمل التطورات العالمية، وخاصةً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، التي أيقن فيها كل السوريين بأن مصيبتهم لم تعد داخل وطنهم وعلى حدوده، بل امتدت بعيداً، لترتبط بنتائج الحرب في أوكرانيا، بل قد تمتد أكثر من ذلك، إلى حين التوصل إلى اتفاق جديد بين القوى العظمى، لإنشاء نظام دولي جديد، على قدم المساواة بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من الصين وروسيا ومن معهما من جهة أُخرى.
ومن الواضح أن العرب، بشكل عام، لا يملكون قرارهم حتى الآن، على الرغم من توسع هوامش الحركة لديهم، ومحاولاتهم لتوسيع خياراتهم السياسية والاقتصادية، بالمساعدة في حل مشكلة الكارثة السورية، وأن القرار النهائي مرتبط بقواعد جديدة للنظام الدولي الجديد، الذي لن يكون قريباً خلال السنوات القادمة.
ما أبرزته هذه الحرب هو نقطة أساسية، بأن ما تبقى من الجغرافيا السورية، لم يفقدها أهميتها، على الرغم من اقتطاع البوابة الجنوبية في فلسطين نحو وادي النيل وشمال أفريقيا، وأن استقرارها مرتبط بمدى قدرتها على فهم الهويات الأربع، التي تصارعت فيما بينها، منذ انهيار الدولة العثمانية، على أيدي القوى الغربية المهيمنة حتى الآن، وأن الأمر يحتاج إلى مشروع مشرقي أكبر مما هو عليه، يتم من خلاله إيجاد صيغة لاستيعاب هذه الهويات، في إطار دوائر متداخلة بعيداً من الصدام والاستحواذ، ضمن مشروع وطني جديد، مترافق مع فهم القوى الجغرافية التاريخية في هضبة الأناضول والهضبة الإيرانية ووادي النيل، وحتى جزيرة العرب، لضرورة البحث عن نظام إقليمي جديد، قائم على أسس التعاون بين الشعوب والدول، والذي يقتضي أن يحصل التغيير الإيجابي فيها، بشكل متوازٍ فيما بينها، داخلياً وعلى مستوى الجوار.
وأن التغيير بمستوييه الداخلي والخارجي هو ما يتيح للجميع الانتقال نحو بناء نظام إقليمي، له دوره الأخطر، في تحديد مسارات السياسة العالمية، في عالم متغير بشكل متسارع، وهو ما يمكن أن يتيح لسوريا الفرصة للانتقال من لعنة الجغرافيا إلى دُرّتها، فهل سيستوعب السوريون أهمية وقائع الجغرافيا والتاريخ، بإعادة كتابة مستقبل جديد لهم، ليكونوا ساحة تقاطعات إقليمية، بدل أن يكونوا ساحة صدام مدمر للجميع، وبغياب “إسرائيل”؟