إبراهيم محمد الهمداني -كاتب وباحث وأديب يمني
مما لا شك فيه أن للمكان فلسفته الخاصة، سواءً في معاني تموضعه الوجودي الواقعي، أو في دلالات حضوره الوظيفي الإبداعي، نظراً لما له من أهمية في احتواء كل مظاهر الفعل/ الحدث الحياتي، الذي يثمل أبهى تجليات التحقق الوجودي للإنسان على هذه الأرض/ الحياة، حتى أن الأرض/ المكان في عموميته، قد أصبحت مرادفاً موضوعياً للحياة، بوصفها فعلاً إنسانياً وجودياً، وبذلك أصبح المكان ثالث ثلاثة عوامل، في جدلية تحقق الفعل الوجودي، إذ لابد لتحقق الفعل الوجودي/ الحدث، من وجود فاعل/ إنسان، أحدثه وقام به، ضمن تصور زمني محدد، وفي إطار رقعة جغرافية/ مكان معين، قد يضيق أو يتسع لا فرق في ذلك، وبدون المكان يصبح مفهوم الحياة غائباً، على المستوى الواقعي، وعلى المستوى التصوري العقلي، ومن المحال أن يتحقق وجود الإنسان، أو حدوث الفعل دون نطاق جغرافي مكاني معين، يحتوي الوجود الإنساني، والسيرورة التاريخية الزمنية. يمكن القول إن علاقة الانتماء المتبادل، بين الإنسان والمكان، تمثل إحدى تجليات مظاهر الانسجام والتوافق والتماهي، بين هوية الإنسان وهوية المكان، في طبيعة الارتباط التكاملي بينهما، بمواضعات الانتماء والانتساب المتبادل، إذ يعد توارث وتوريث الأنساب سلوكاً إنسانياً مجتمعياً، يعكس خصوصية العلاقة الحميمية، بين الإنسان وأسلافه، الذين يستحضرهم ـ بمهابة وإجلال ـ في مسرد النسب التفصيلي، الذي يصل اسمه بأسمائهم، وتعانق فيه ذاته ذواتهم، حضوراً دائماً، واختصاصاً متوارثاً، وبذات القدر والكيفية ارتبط الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، وانتسب إليه، أو نسبه إلى نفسه، ليصبح جزءاً لا يتجزأ منه، أو كلاً متكاملاً به، متماهٍ فيه، في إطار علاقة حميمية من الاتحاد المطلق بينهما، وعند ذلك ليصبح حديث الإنسان عن المكان ـ في المقام الأول ـ انعكاساً شعورياً ووجدانياً وتعبيرياً وفكرياً، لقيمة ومكانة ومقام أهله وقاطنيه، فالمكان ليس إلا ساكنيه ومن فيه، والموقف منه، هو خلاصة تجربة خاضها الإنسان فيه، واختزلها على هيئة انطباع شخصي، سلباً كان أو إيجاباً. من هنا تأتي أهمية دراسة المكان في هذه القصيدة (مأرب والخوف العالمي)، حيث يحضر في سياق تقريري، يسعى إلى إثبات صورة المكان/ مأرب، في مركزيته المهيمنة، ودلالته على التحقق الوجودي الثابت، في تموضعي الاسمي، وتركيبه الخبري التقريري، الناص على المكان/ مأرب بذاته، المشار إليه بالمبتدأ المحذوف المقدر بالقول (هذه مأرب ـ كاختصاص للمدينة ـ أو هنا مأرب ـ كإشارة إلى عموم المكان الجغرافي)، وبهذا المستوى من الحضور المهيمن تركيبياً ودلالياً تتضح صورة المكان في أبهى تجلياتها وأصفى وأنقى ملامحها، ضاربة بجذورها التاريخية في أعماق وجدان المتلقي، كواحدة من مئات التموضعات الوجودية والتشكلات التصويرية والمعطيات الدلالية. …. والخوف العالمي” يأتي الطرف الآخر من العنوان، ليرسم طبيعة الصورة المتشكلة في ثنائية الحضور والغياب، فمقابل مركزية حضور المكان/ مأرب، وقوته وفاعليته وديمومته، يحضر (الخوف العالمي) على هامش المكان، كسلوك إنساني سلبي، بما يحمله من مدلولات الضعف والعجز والهزيمة، معطوفاً عليه، ملحقاً به، لا يرقى إلى حالة الحضور الندي، على قاعدة التماثل، إلا بمقدار ما تمنحه الدلالة التركيبية، في سياق ما هو متواضع عليه من دلالات عطف الشيء على الشيء، الذي تحمله ـ واو العطف ـ بدلالة الاستواء والمماثلة، بين المعطوف والمعطوف عليه تركيبياً فقط، لأن دلالة حروف المعاني مؤقتة ومتغيرة، وبالرغم من حضور الإنسان ـ من خلال إحدى لوازمه (الخوف) ـ كنظير ندي للمكان، إلا أن ذلك الحضور سرعان ما يتلاشى، ويفقد فاعليته وقوته، نظراً لما يكتنفه من السلبية والضعف والعجز الجمعي/ العالمي، وما تحمله مدلولات الخوف، من صور التلاشي والاضمحلال، وصولاً إلى القيمة الصفرية والغياب. وبذلك تفقد واو العطف دلالتها التناظرية التماثلية، في علاقة المعطوف بالمعطوف عليه، وتدل في هذا السياق على حال/ هيئة الإنسان العاجز المتسربل بالخوف، في صورة مخزية من الجبن الجمعي/ العالمي، مقابل ثبات ووضح صورة المكان وقوة حضوره، المنصوص عليه بالإشارة إليه، الأمر الذي يلقي بظلاله على كثير من التساؤلات، مثل:- ما الذي جعل المكان (مأرب) في محدوديته الجغرافية/ المكانية، موطناً لهذا الكم الهائل من الخوف العالمي؟ وما السبب الكامن وراءه؟ وهل الخوف (العالمي) من المكان (مأرب) أم عليه؟ ما طبيعة ذلك الخوف العالمي؟ ومن يمثله؟ وما طبيعة علاقته بالمكان (مأرب)؟ استطاع العنوان تجاوز دلالة التركيب الاسمي، المحملة بالجمود والثبات والسكون المطلق، منزاحاً ـ من خلال حالة الخوف العالمي ـ إلى مشهد لا نهائي الحركة، يضج بديمومة التفاعل بين الذات الجمعية والمكان، وبروز الخوف العالمي الدائم حالة وشعوراً، في خطيته الزمنية الممتدة من الحاضر إلى المستقبل، بلا نهاية معلومة، كحالة شعورية عالمية، قد ينتج عنها ردود فعل خاطئة، وتصرفات سلبية فادحة، كما هي عادة فعل الخائف والجبان، وهي غالباً ما تكون كارثية، ومن الصعب التنبؤ بها، إلا إذا عرف الفاعل/ الخائف، وبواعث خوف، ومن جماليات التركيب العنواني ـ موضوع الدراسة ـ أنه أشار ولم يفصح، وأومأ ولم يوضح، ليلقي بالمتلقي ـ من خلال وظيفته الإشارية ـ في دوامة من التساؤلات ألا نهائية، وحوارات مفتوحة الأبعاد والقضايا والتأويلات. إذن:- من هو الفاعل الحقيقي في حالة الخوف الموصوف بـ العالمي؟ خوف البريطاني على مأرب أكثر من خوف هادي والسعودي ونهيان بهذا الاستهلال يفتتح النص الشعري مسرحية الخوف العالمي، ويظهر البريطاني ـ في تموضعه الإمبريالي العالمي ـ أبرز اللاعبين لدور البطولة الرئيس فيها، وبينما يظهر بقية اللاعبين، سواء على المستوى المحلي في مسمى شخصية هادي ـ أو على المستوى الإقليمي ـ في شخصيتي السعودي ونهيان ـ مجرد شخصيات كرتونية هامشية، ذات أدوار تكميلية أو ما يسمى بالكومبارس، وإذا كان هذا المشهد الاستهلالي، قد أفصح عن شخص/ الخائف العالمي مشيراً إليه من خلال مسماه (البريطاني)، فإنه قد أثار تساؤلات جديدة، عن سبب ذلك الخوف، وعلاقة البريطاني بالمكان (مأرب)؟ وهل هناك ما يبرر كل هذا القلق والخوف الدائم؟ إن مواضعات المكان (مأرب)، السياسية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والقبلية (الديموغرافية)، بإمكانها تقديم تفسيرات متكاملة للسبب الحقيقي، الذي جعل تحالف العدوان، يختار (مأرب) قاعدة استراتيجية لعملياته الحربية العسكرية الإجرامية، ومركزاً رئيساً لتجمع مرتزقته وعملائه وأدواته، القاعدية الداعشية وغيرها، وبهذا تتضح حقيقة العدوان على اليمن، وتسقط كافة الدعاوى والشعارات، وتسقط ذريحة إعادة الشرعية المزعومة، وتسقط مزاعم الحد من النفوذ الفارسي في المنطقة، ليظهر اللاعب الرئيسي، والمجرم الحقيق، والقائد الفعلي لهذا العدوان العالمي على الشعب اليمني، ويبرز (البريطاني)، بكل محمولاته الدلالية، ذات الأبعاد الاستعمارية الاستكبارية، والإرث التاريخي المليء بالإجرام والتوحش والهيمنة، وبهذا يمكن القول إن حضور (البريطاني) ـ في تموضعه الإمبريالي المهيمن ـ محملاً بهذا الكم الهائل من الخوف على (مأرب) يؤكد طبيعة الدور البريطاني، ومن خلفه الأمريكي والصهيوني ومن معهم، ويكشف حقيقة الاطماع الاستعمارية التي تسعى إليها تلك القوى الإمبريالية، ليس في اليمن فحسب، وإنما في المنطقة العربية والإسلامية بأكملها، وإنما اختصت (مأرب) بهذا الخوف البريطاني/ الاستعماري، كون اليمن هي حجر العقد في معادلة الصراع العالمي، بين قوى الاستعمار والهيمنة من جانب، وقوى محور المقاومة والتحرر من جانب آخر، نظراً لما تمثله اليمن وشعبها من أهمية على كافة المستويات، وهو ما أثبتته الأحداث والوقائع منذ سبع سنوات من العدوان، حتى الآن. إن الانتصارات العظيمة المتوالية، التي حققها أبطال الجيش واللجان الشعبية اليمنية، في مسار عملية التحرير، انطلاقاً من (فرضة نهم) ومحافظتي الجوف والبيضاء، وبعض مديريات شبوة، وصولاً إلى محيط مدينة مأرب، بعد تحرير معظم مديرياتها، بالتزامن مع الانتصارات المتحققة في الساحل الغربي، هي السبب الحقيقي لتعاظم الخوف العالمي، وظهور المستعمر البريطاني علناً على ساحة الصراع، وإدارة العدوان على اليمن مباشرة، بعد أن كان البريطاني متخفياً خلف أدواته الإقليمية (السعودي والإماراتي) وعملائه ومرتزقته المحليين، ولكن ما علاقة بريطاني بمأرب؟ وما مبررات خوفها، برغم أنها لم تكن ضمن جغرافية إرثها الاستعماري؟ وما موقع مأرب في سياق حلم العودة الاستعماري؟ وهل يمكن القول أن تحرير مأرب، هو بوابة تحرير الجنوب من الاستعمار البريطاني عبر وكيله الإماراتي؟. خايف قلق طافح مزاجه معكر وكلما اشتدت تواصل بسلطان الووه يا سلطان بشر… وبشر:- قد شلوا الدحلة وكوفل وهيلان هي والجميدر.. قال (وات إز جميدر)؟ قال له: (إتز) شلوه حمران الأعيان وأصحاب مأرب حددوا مصدر الشر من يوم قمنا نختطف عشر نسوان والوضع قارح والمغرر محير واحنا تعبنا كذب.. إيران.. إيران يجسد البيت الأول من هذا المقطع، الحالة النفسية المضطربة لذلك البريطاني، في مشهديتها الدائمة بتكراريتها، المتمثلة في تفاعل مفردات (الخوف، القلق، الغضب، المزاج السيئ/ المعكر، تكرار عمليات الاتصال الهاتفي)، وبهذا المستوى من الخوف والرعب والقلق، والحالة النفسية السيئة جداً، يحضر (البريطاني) الفاعل الأول، واللاعب الرئيس، والموجه العام لسير المعارك والعدوان على اليمن، وهو حضور ـ رغم فاعليته الحركية ـ سلبي، طافح بالخوف والجبن والعجز والارتباك والاضطراب النفسي والحركي، وفي الجانب الآخر تظهر أداة العدوان الفاعلة على الأرض، ممثلة في شخص سلطان العرادة، الذي يعمل ـ مرتزقاً بمرتبة شيخ محافظ ـ على تنفيذ تعليمات البريطاني، وإدارة المعارك على الأرض، وفقاً لتوجيهاته. ومن خلال مجريات الاتصال الهاتفي، يختفي البريطاني في دائرة تساؤلاته القلقة، وخوفه المرتقب، من تطورات الأوضاع، التي يسردها في الطرف الآخر من الهاتف، العميل سلطان العرادة، مبشراً بمزيد من الهزائم التي حاقت بالبريطاني ومرتزقته، على يد (حمران الأعيان) أبطال الجيش واللجان الشعبية، الذين حققوا حضوراً فاعلاً بالشراكة مع المكان (الدحلة، كوفل، هيلان، الجميدر) برمزيته القوية، وحضوره في سياق الحرية والانتصارات المذهلة، وكما اختفى البريطاني من المشهد، وغاب عن المكان، مأرب، خلف سماعة الهاتف، اختفى أيضاً عميله (العرادة) عن المشهد، منزاحاً إلى الهامش من خلال صوته/ الاتصال الهاتفي، وهو يضيف إلى الهزائم المكانية، هزائم اجتماعية، تمثلت بموقف أهل مأرب، إزاء جريمة العيب الأسود، التي ارتكبها المرتزقة المحليون، ممثلة باختطاف النساء، وهو ما لا يقبله اليمني مهما كانت الأسباب والمبررات، وهذا ما أفقدهم الحاضنة الشعبية، وجعل المجتمع ينقلب عليهم، والأوضاع تسير ضدهم، ويصل الغياب إلى ذروته، بعد أن فقد البريطاني ومرتزقته أسباب الوجود المكاني والأخلاقي، وصولاً إلى المستوى القيمي، من خلال ممارسة الكذب والتضليل، “واحنا تعبنا كذب….إيران.. إيران). إن السقوط القيمي والديني والأخلاقي، الذي جسدته بعض الحالات الشاذة من أبناء القبائل، سواء في الجوف أو مأرب أو البيضاء أو غيرها، وقبولها بالعمالة والارتهان، وارتكابها لما يعرف بالعيب الأسود، ما كان لها أن تكون لولا ما تعرضت له القبيلة اليمنية ـ وخاصة منطقتي مأرب والجوف ـ من عمليات استهداف ممنهج، على المستوى الديني والقيمي والأخلاقي والثقافي، بتخطيط بريطاني أمريكي صهيوني، وتنفيذ أدواتهم من دول الجوار ـ السعودي والإمارات ـ ومن الداخل ـ النظام السابق وحزب الإصلاح بأجنحته الثلاثة (القبلي والديني والعسكري) ـ حيث تم استهداف بنية المجتمع القبلي، ثم إعادة بناءه وفق مواضعات جديدة، من شأنها إعداد المرتزقة والعملاء مسبقاً، بحيث يكون ذلك هو الخيار الوحيد أمامهم، خاصة بعد تشربهم التدين الوهابي، وانقلابهم على منظومة القيم والعادات والتقاليد والأعراف القبلية الموروثة، وهذا هو ما تفرسه استراتيجية المستعمر البريطاني، التي قدمها عبر الهاتف، وذكر بها شيخ العملاء والمرتزقة، كوسيلة فاعلة للتعامل مع مثل تلك الظروف والمتغيرات التي تسير خلافاً لأهوائهم ومصالحهم. قال اتصل لا واعروكم بصعتر يدق فتوى من كتاب بن فلتان واستنجدوا في تركيا يا بن الاحمر بـ رضّع أردوغان وأطفال عثمان واستعطفوا شبوة تعزز بعسكر واستقطبوا من جولة الشيخ عثمان واعطوا كبار المنطقة ما تيسر وطمعوهم بالمناصب والادوان أنتو عليكم تدفعوا بالمغرر مغصوب.. راضي.. يندفع كيفما كان ومن رجع للخلف دقوه معبر هو مرتزق ما له مكانه ولا شان واحنا لكم في الجو والبحر والبر (لندن وواشنطن وزايد وسلمان) تتجلى في هذا المشهد الشعري التصويري حقيقة السياسة الاستعمارية، حيث يرسم المستعمر البريطاني أقبح صورها، وأقذر خططها وأحط مظاهرها، من خلال أوامره إلى شيخ عملائه وقائد مرتزقته، واضعاً التوجيهات والحلول اللازمة، لمواجهة المسار التحرري، بتفعيل وتوظيف كل الوسائل والأدوات والطرق القذرة، بداية بتوظيف البعد الديني، واستخراج فتاوى حسب الطلب ومقتضيات المرحلة، ويحضر رجل الدين (صعتر)، كنموذج لأولئك المبتذلين، من علماء البلاط وفقهاء السلطان، الذين لا يتحرجون من تفصيل الدين على مقاسات الحاكم ومصالحه، ويحضر (كتاب بن فلتان) كناية عن سخرية المستعمر البريطاني من تلك المرجعية الدينية المزيفة، التي تستند إليها ـ عادة ـ تلك الجماعات الدينية المتطرفة. وتأتي الاستراتيجية الثانية في توظيف البعد المذهبي والسياسي، الذي يمثله المرتزقة، الذين تتم إعادة إنتاجهم في تركيا، بوصفهم “رضع أردوغان أطفال عثمان”، ولا يخلوا وصف المستعمر لهم من سخرية وتهكم، وهو وصف ينسحب على العميل المرتزق المشرف عليهم في تركيا، حميد الأحمر، تلك الشخصية الكرتونية الهشة. وتكمن الاستراتيجية الثالثة في توظيف البعد الطائفي، الذي يستهدف بنية المجتمع اليمني، ويسعى إلى تفتيته بالنزعة الطائفية والتعصب المذهبي، حيث مرتزقة داعش والقاعدة في شبوة والشيخ عثمان، الذين يمثلون نفس الخط الوهابي وينتمون إلى ذات المرجعية الفكرية الدينية المتطرفة. وتأتي استراتيجية شراء الذمم والولاءات بالأموال والمناصب، لتمثل الصورة الكاملة لاستراتيجيات القوة الاستعمارية، في تفتيت بنية المجتمع، وهدم كل المشاريع التحررية، من خلال إفساد النفوس، وهدم كل القيم والمبادئ، مقابل الحصول على الأموال والمناصب، ومن خلال كل تلك الاستراتيجيات، يتم تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام، وتغرير الناس البسطاء، والدفع بهم في محارق لا نهائية، خدمة لمصالح المستعمر وحده. وتحضر في خاتمة هذا المشهد، النهاية المأساوية لأولئك المرتزقة، الذين لا يساوون عند أسيادهم شيئاً، بعد أن أهدروا كرامتهم ودنسوا قيمتهم الإنسانية، حيث يتم قتلهم بدم بارد وكثيراً ما سمعنا عن النيران الصديقة، وقد قوى العدوان لمرتزقته في محارق جماعية، يقال أنها حدثت بالخطأ. وفي نهاية المشهد يتردد صدى صوت المستعمر (البريطاني)، باذلاً الوعود لشيخ مرتزقته، وهي الوعود ذاتها التي طالما بذلها المستعمر وكررها على مسامع مرتزقته، عبر العصور، ولكن لم يتحقق أيَّاً منها على أرض الواقع، فكل ما يهم المستعمر هو مصلحته فقط لا غير، ولا يعدوا المرتزق كونه أداة في نظره. تتخذ بنية الحوار نهاية مفتوحة يضعها الصوت المركزي (البريطاني)، الذي يرسم الخطط ويوجه الأوامر ويصدر التعليمات، إلى الصوت الهامش/ المرتزق سلطان العرادة، ومن خلاله إلى كل المرتزقة والعملاء، وتحمل هذه النهاية المفتوحة، دلالة الاستمرار في الفعل ورد الفعل، بين طرفي الحوار، وبالتالي استمرار المعركة في ذات المسار التكراري، الذي يتمركز فيه الصراع في دائرته المغلقة على استمراريته اللانهائية، واستمرار تفاعل عناصره، ليستمر بذلك مسلسل سقوط/ تحرير المكان، بالتوازي مع استمرار حشد قطعان المرتزقة، وتكرار نهايتهم الوخيمة، وعبثية دورهم، في وقوفهم إلى جانب المستعمر البريطاني المحتل، بالإضافة إلى ذلك تستمر القوى الاستعمارية في مسلسل دعم وتغذية الصراع، والدفع بمزيد من العملاء والمرتزقة، بقتل أبناء الشعب اليمني، سواء على المستوى الإقليمي السعودي/ الإماراتي/ الأمريكي/ البريطاني، كأنظمة حاكمة تسعى لتحقيق هيمنتها ومصالحها، أو على المستوى الأممي، ممثلاً في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ليتحقق بذلك الدعم الكامل للقوى الإمبريالية، ومنها قوى العدوان، على كافة المستويات العسكرية واللوجستية والمادية وغيرها، بالإضافة إلى ضمان التواطؤ الدولي، والصمت الأممي أمام مجازر قوى العدوان السادسة بحق أبناء الشعب اليمني، واتباع سياسة الكيل بمكيالين، وإصدار القرارات التي تدين الضحية وتبرئ الجلاد، في انقلاب واضح على قوانين وأعراف ومبادئ الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، بما من شأنه تهديد الوجود الإنساني عامة. يشتي يزج الكل في حرب صرصر متعدد الشخصيه اشكال والوان من القفا يقتل وفي الوجه يظهر يطالب المقتول بحقوق الانسان يستعمر الاوطان باطل ومنكر ويدينها في يوم تحرير الاوطان حصاره اغلق كل جانب ومصدر ولا كانه حاصر ارواح وابدان قتل ونكر في وطنا ودمر كأن ما فيها مساكن وسكان تأثر ابليسه وهو ما تأثر ولا حسب لاوجاعنا أي حسبان أُسدل الستار على مشهد (القلق العالمي)، الذي مثله (البريطاني) المستعمر الجديد الخائف على (مأرب)، وبلغت تفاصيل ذلك المشهد ذروتها، في سورة الصراع المحتدم، بين مسار تحرري ناهض بقوة، ومسار استعماري مضطرب مفكك، لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم، وتوظيف كل العناوين والشعارات الزائفة، التي من شأنها تفكيك وهدم وحدة وقوة الوطن/ مأرب (المكان/ الإنسان)، لكن حلم الطمأنينة والبشارة والأمان، الذي كان ينشده (البريطاني الخائف)، قد بدده صوت الآخر (شيخ العملاء العرادة) القادم من الطرف الآخر، وهو يصف حرية مسار التحرر، في متواليتها المشهدية المتتابعة والمتكررة، وحركية فاعليتها ـ أبطال الجيش واللجان الشعبية ـ الحاضرين بقوة، من خلال الضمير/ الفاعل (واو الجماعة) المتصل بالفعل (شلوا)، الدال على القدرة والقوة والتمكن من أخذ واحتواء المكان تلو المكان، (الدحلة، كوفل، هيلان، الجميدر) وغيرها، وإن مسألة السيطرة الكاملة على (مأرب)، لا تعدو كونها مسألة وقت، وإنما تم أخذه والسيطرة عليه، لا سبيل إلى عودته إلى أحضان البريطاني ومرتزقته، وهذا يظهر المكان (مأرب) شامخاً عصياً على قوة المستعمر البريطاني، متمركزاً في قلب المشهد التحرري، بينما يتلاشى حضور وصوت البريطاني المستعمر ومرتزقته، إلى أقصى متاهات الغياب والاضمحلال. في المقطع التالي، يظهر صوت الراوي الناقل المركزي، الذي يتحول إلى متكلم فاعل، في بنية الحوار الجديدة، المتوجهة بكل تفاصيلها إلى متلقي، حيث يصف الصوت الراوي/ المتكلم ـ بلسان الحرية والكرامة ـ طبيعة السياسة الاستعمارية، التي جسد كل تفاصيلها وأساليبها البريطاني/ المستعمر، في حوار مع شيخ مرتزقته، وهي سياسة تعج بالخبث والدناءة والوحشية والإجرام، بكل ما فيها من صلف وغرور وكبر وانحطاط، ونفعية، وهمجية وبدائية، تمارس القتل بدم بارد، ويسعى للهيمنة والسيطرة بمختلف الوسائل والسبل، غير مستنكف من قبح تناقضاته، وتعدد مواقفه وشخصياته، في صورة الجزء الاستعماري البريطاني، التي تعكس طبيعة صورة الكل الاستعماري، ممثلاً في الأمم المتحدة (الاستعمارية)، ومجلس أمنها الامبريالي، فهي لا تتورع ولا تستحي، وهي تماس أقبح وأقذر الأدوار الإمبريالية علناً، حين تقتل الضحية ثم تطالبها بحقوق الإنسان، وتسعى لاستعمار الأوطان وتدين مشاريع التحرر، في الوقت نفسه، وتمارس أبشع وسائل القتل الجماعي، بالحصار والقتل والتدمير والتنكير، بهدف سلب الإنسان/ المكان، كل مقومات القوة والحياة، والقدرة على التحرك والرد والردع. تصل الأحداث في هذا المشهد، إلى ذروة تفاعلها التصاعدي، في خطها الزمني المحرك من الحاضر إلى المستقبل، من خلال بنية الأفعال المتواترة المتسارعة، بطابعها التكراري، الدال على إصرار البريطاني المعتدي/ المستعمر، على المضي في تنفيذ مخططاته وتحقيق مواضعات هيمنته، وهو ما تحمله دلالات الأفعال “يقتل، يطالب، يستعمر، يدين، يحاصر، يقتل، ينكل، يدمر…إلخ)، وصولاً إلى نهاية هذا المشهد، الذي يحمل المتلقي إلى طريق مسدود في ظل عنجهية وعربدة البريطاني المعتدي، وصمت وتواطئ الأمم المتحدة، وعجز الشعوب وارتهانها لاستبداد حكامها، الخاضعين للقوى الإمبريالية. قلنا لهم عدوان والعالم أدور صحنا بطول الصوت عدوان ـ عدوان إلى هنا يكفي تفاوض ومجبر مأرب هي آخر حل يا شعب الإيمان مارب هي النصر الكبير المؤزر ميدانها ياختصر الف ميدان مارب هي الملطام بالكف الايسر في وجه واشنطن ولندن والاخوان لا تحررت مارب يمنا تحرر في نارها با يطفي الله نيران ويوقف العدوان مغصوب مجبر ويرتفع عنها حصار بن مرخان وينسحب من كل جبهة ومحور ويجب يفاوضنا مدني ومهتان مارب هي ام الحل يا شعب حيدر والارض ارضك انت والنهج قرآن استطاع المتكلم/ صوت الحرية والمقاومة، كسر حاجز الصمت فالخضوع، ونسف مواصفات الهيمنة والاستسلام، سواء مستوى الحوار أو النصر الشعري، أو على مستوى الطرح الإجرائي الواقعين، وما حققه من تحولات على هذين المستويين. فعلى مستوى بنية الحوار، تحول المتكلم من مستوى الخطاب الهادئ (قلنا لهم)، المتناسب مع مقام المحاججة والإقناع، في سياق مخاطبة الآخر (الداخلي والخارجي)، إلى مستوى الخطاب الصارخ بأعلى صوته (صحنا بطول الصوت)، بما يتناسب مع طبيعة الحال، ومقام المخاطب (العالم الخارجي)، وعلى مستوى الطرح الإجرائي، انتقل المتكلم من دور الراوي السارد المحايد، الناقل لكل ما يدير حوله، من أحداث واختلالات عالمية، بلغة الوصف المبطن بالنقد والرفض، إلى دور الراوي الشاهد المعارض، في تموضعه القيادي التحرري، الذي يضع الخطط، ويرسم معادلات الصراع، ويقرأ نتائجنا وفقاً لمعطياتها. يعود المكان (مأرب)، إلى واجهة الصورة، متصدراً المشهد بتمركزه في تموضعه الإيجابي الفاعل، الذي يحمل في طياته، رؤية الخلاص والخروج من دائرة الموت المغلقة، التي سبق وفرضها البريطاني المعتدي وحلفائه وعملائه، ليقف المكان شامخاً بأهله، منتصراً بأبنائه، وهو ما تحمله دلالات حضور المكان (مأرب) على المستويين التركيبي والمفاهيمي، ففي المستوى الأول؛ حضر المكان (مأرب) بقوة، من خلال أسلوب التكرار لاسم المكان صراحة، أو من خلال الضمير العائد عليه، بما تحمله مدلولات التكرار، من تأكيد الحضور وفاعليته وقوته، حتى أنه قد أصبح حضوراً طاغياً، وفي المستوى الثاني؛ حضر المكان (مأرب) في سياقات مفاهيمية، مغايرة لمدلولات تموضعه الجغرافي الجامد، إلى تموضعات دلالية واسعات الفضاء، ذات فاعلية إيجابية قوية، لأن “مأرب هي آخر حل…، مأرب هي النصر…، ميدانها با يختصر…، مأرب هي النصر…، لا تحررت مأرب…، [مأرب بوابة حرية الوطن بأكمله]، في نارها با يطفي الله نيران…، ويوقف العدوان…، ويرتفع عنا حصار…، وينسحب…، ويجي يفاوضنا…، مأرب هي أم الحل…”. وبذات القدر والنسبة من حضور وقوة وإيجابية المكان/ مأرب، يحضر الإنسان/ شعب الإيمان/ شعب حيدر، بما لهذين الاسمين، من خصوصية الصفة (الإيمان) والانتماء إلى (حيدر)، كنية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وما تشير إليه مدلولات ذلك الاختصاص، الذي لم يكن لغير أهل اليمن، من الحضور المشبع بالإيمان والحكمة والقوة، وما يفضي إليه من مواضعات النصر والفلاح وما بين كون المكان (مأرب هي آخر حل…) و(مأرب هي أم الحل…)، يفصح المشهد عن مركزية وإيجابية حضور المكان/ مأرب، وفاعلية وقوة حضور الإنسان/ شعب الإيمان/ شعب حيدر، مساراً ونهجاً وأثراً، على نطاق واسع. والوضع غير الوضع (بيفور وافتر) قل للـ (بريتش والمريكي والالمان) إذا البريطاني والامريكي اجدر بالحرب يلقونا (دحيضة ورغوان) وانك تباها سلم يابن الزهيمر الناطق الرسمي وصاروخ بركان سلام ولا حر وانت المخير تختار ما تختار… خسران خسران حسب معايير القياس المصغر مخافة الشيطان من بدر مران تقاس شدتها بمقياس رختر وكافية تقضي على كل شيطان هنا يتحول المتكلم بخطابه إلى قوى العدوان الاستعمارية ـ بعد أن وضع الحلول واختط معالم النصر في المشهد السابق ـ التي طالما استهانت بهذا الشعب وعملت على تدميره وتطويه وتركيعه، عبر وكلائها من الأنظمة الحاكمة السابقة، أو عبر عملائها ومرتزقتها، الذين سرعان من تساقطوا، ليصبح “الوضع غير الوضع” قبل وبعد، التي وردت في صيغتها الإنجليزية (Before) و (After)، دلالة على اختصاص توجيه الخطاب، إلى مخاطب محدد بذاته لا سواه المخصص بتعيين جنسيته (British)، و(المريكي والألمان)، في خطاب تهكمي لاذع يقترح عليهم المواجهة المباشرة، بدلاً من التخفي وراء مرتزقتهم). إذا البريطاني والامريكي اجدر بالحرب يلقونا دحيظة ورغوان. بعد إسقاط قناع القوى الاستعمارية الكبرى، وكشف حقيقة دورها في قتل وتدمير يقوم المتكلم بنقلها إلى مركز الصراع، كلاعب رئيس وطرف أساس فاعل في المعركة، ضمن إطار مركزية المكان في عموميته (مأرب)، أو المخصص بقوة حضوره (دحيظة ورغوان)، الأمر الذي يؤكد فاعلية مركزية المكان، وأهميتها الكبرى، وتكالب قوى العدوان العالمي عليه، سواء على المستوى الجغرافي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، لتتشكل بذلك الأبعاد الجديدة لصورة المكان الشعرية، في تموضعها الثابت المحوري، أو المتحرك المشهدي، ليصبح المكان/ مأرب في خصوصية جغرافيته (دحيظة ورغوان)، في تموضعه المركزي الرئيس، نقطة التقاء طرفي الصراع، وساحة المعركة الأخيرة، التي ستشهد تحقق الحسم الأخير، والنصر الكبير، بما يتضمنه الحدث، من تفاعلات التحول الثلاثي، في انساقها الزمنية والمكانية والإنسانية، لتظهر الأنا المتكلمة بقوة، من خلال المكان، الذي تتمركز فيه، ويتمركز في أعماقها، محققة حضوراً إيجابياً فاعلاً بوصفها خاتمة مناسبة بذلك الصراف المرير، ليسقط فيها ممثل القلق العالمي ـ بريطانيا وأخواتها ـ ويسقط أيضاً كل العملاء والمرتزقة، في دائرة الخسران المبين؛ فمهما تعدد خياراتهم وتصوراتهم للنهاية المحتومة، فلن تكون غير الخسران الشامل، ذلك لأن القلق العالمي، سرعان ما ينتقل من كونه سلوكاً إنسانياً، إلى ظاهرة/ كارثة طبيعية، تجسدها الزلازل، التي دلت عليها احدى لوازمها، (مقياس ريختر)، وبذلك يصبح الخوف العالمي/ خوف جميع الشياطين من مواجهة (بدر مران)، السيد القائد حفظه الله ورعان، كارثة طبيعية تميد بها الأرض وجبالها. إن قراءة واحدة لهذا النص لا تكفي، ولا يمكن أن تفيه حقه، ولكن يمكن القول إنه مثَّل إضافة نوعية في مسار النص الشعري المقاوم، مبنى ومعنى، وفي مسار الأدب المقاوم، فلسفة ورؤية، علاوة على ما تميز به الشعر اليمني المقاوم، عن غيره، في اختيار درب المواجهة والتحدي، والسعي لإنزال أقصى الضربات، بقوى الهيمنة والاستكبار، بعيداً عن لغة استعطاف الجلاد، أو أسلوب إقناع الظالم بصدق المظلومية، والمحتل بعدم أحقيته لامتلاك المكان والسيطرة على الوطن، وهذه الخصائص الفنية والموضوعية، بحاجة إلى دراسة مستفيضة مع الأخذ في الحسبان أن معظم ـ إن لم نقل كل ـ شعراء المقاومة في اليمن، هم مجاهدون بالدرجة الأساس، وما يكتبونه هو من واقع تفاصيل عاشوها في جبهات العزة والكرامة، والمعارك وصد الزحوف والاقتحامات، لذلك استحقوا أن نسميهم فرسان السيف والقلم، وشاعرنا المجاهد/ صقر اللاحجي في مقدمة صفوفهم.