ليندا حمّورة | كاتبة لبنانية
ما بين تجسيد الفنّ وفنّ الجسد حوالي النصف قرن تفصلهما خيوط معقدة المنشأ، انسيابيّة التّكوّن، سوداء المسار، غسقيّة المآلات، ملوّثة السلوك وانقطاعيّة المبدأ . ما بين الماضي والحاضر وقفة تأمّل وترقّب وتصبُّر على ما تنتجه السينما العربية اليوم من عهر فنّي وانحطاط أخلاقيّ وشخصيات أشبه بدمى تحرّكها عمليات التجميل لتصبح شخصيات هاربة من متحف الشّمع …
لست أدري لماذا أعادتني الذّاكرة اليوم إلى السّينما المصريّة في زمن لم تعرف شاشاته الألوان، كان فقط مكتفياً بالأبيض والأسود ولكنّنا كنا نلوّن قلوبنا من خلال مشاهدتنا لتلك الأفلام التي كانت تضمّ عمالقة الفنّ العربي، استوقفتني تلك الممثلة المبدعة التي لم تكن يومذاك عارضة أزياء ولا ملكة جمال ولا مغنية، لا بل كانت إنسانة بسيطة صادقة مع نفسها متفانية في عملها، ” فاتن حمامة ” سيدة الشاشة العربية, كم نحن بحاجة لأمثالك اليوم ؟ كم نفتقد لإنسانة أعطت للمرأة قيمة ومرتبة عالية من الاحترام والتّقدير ؟ أين أنتِ أيتها القديرة لتلقي نظرة على فظاعة الممثلات وعلى عهرهن وخبثهنّ وتلك الصورة اللا أخلاقية التي يظهرنها عن المرأة ؟
لا حاجة اليوم لتلك المدارس الفنية التي تعلّم التمثيل والغناء وغيرها، فقط عليكِ أيتها الفتاة أن تكوني منفتحة، وهنا مفهوم الانفتاح يختلف عن معناه الحقيقي لأنه يتمثّل بانفتاح الجسد وليس العقل،يكفي أن تكوني مثيرة بجسدكِ منتفخة بشفاهك ومختصرة بملابسك، ممتلئة بالسيليكون والفيللر وغيرهما … نعم شاشاتنا اليوم تعجّ بالممثلات اللواتي يختصرن مشاوير الدراسة الطويلة بدرس واحدٍ في إحدى عيادات التجميل .
فيما مضى أعطت السينما العربية صورة جميلة عن المسرح العربي الذي كان يضم عدداً كبيراً من الممثلين المثقفين وبقي الشارع العربي محتفظاً بتلك الصورة اللائقة للفن حتى منتصف السبعينات أي قبل أن يغزو عالمنا التطور التكنولوجي والعلمي، يكفي آنذاك أن ترى اسمًا، أمثال المخرج العملاق يوسف شاهين، لتعرف حجم العمل السينمائي ورونقه، طبعاً مع احترامي الكبير لبعض المخرجين في يومنا هذا والقليل القليل من الممثلين الذين لا زالوا يحتفظون بأدبيات السينما وبثقافتها …
وإذا ما ابتعدنا قليلاً عن مسألة الممثلات الاستعراضيات، سنغوص في كتابة السيناريوهات وافتقار شاشاتنا لأولئك الأدباء الذين أخذونا في الماضي إلى متعة الانسجام وسحر القصص التي كانت تشدّنا إلى ما بعد النهاية، اليوم نشهد حشداً سينمائيًّا على القنوات التلفزيونية يضم باقات عديدة من المسلسلات جعلتني أسرح بخيالي إلى أواخر الثمانينات حين كان موعد مسلسل رأفت الهجان موعداً مقدساً تمنع فيه الهمسات لأننا كنا نستلذ بحلقاته التي تحكي عن قصة حقيقية يرويها أبطال السينما المصرية أمثال بطل المسلسل محمود عبد العزير ، وفاروق الفيشاوي، ويسرا وغيرهم من عمالقة الفن، فبقيت بصمة الكاتب الراحل “صالح مرسي “والمخرج” يحيى العلمي ” مطبوعة في الذاكرة ولم تستطع السنون محوها أبداً …
مما لا شك فيه أن نجاح السينما يعود لانتقاء القصة في الدرجة الأولى ويجب أن تكون قصة تحاكي المشاكل التي يواجهها المجتمع وتسلّط الضوء على العقد والحلول المناسبة، تماماً كما استثمر، في الزمن الماضي، القائمون على السينما العربية حدود المثاقفة الفنية مع الآخر، فكان الاقتباس طريقاً سلكوه وحققوا من خلاله نجاحات باهرة خصوصاً عندما نقلوا روائع الأدب إلى فن كرواية هيمنغواي ( العجوز والبحر ) وسرفانتيس ( دون كيشوت) أو (فيلم ذهب مع الريح ) لمارغريت ميتشل …
ولم تكن الروايات الغربية فقط سبباً رئيسياً لإنجاح السينما العربية لا بل هناك عمالقة الأدب والأدباء أمثال طه حسين، ويحيى حقّي، وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، وغيرهم من المبدعين الذين صاغوا قصصاً خلّدها التاريخ وجسّدتها السينما المصرية مع نجوم الفن والثقافة السينمائية …
أمنياتنا اليوم لصنّاع السّينما أن يكونوا واثقين بأنّ أعمالهم لا تقتصر على تلك المشاهد وتلك الشخصيات المصنّعة وما يقدمونه من مهرجانات وهرتقات، بل عليهم حسن اختيار النصوص الفنيّة وأن تكون مبنية على حقائق واقعية قريبة من المنطق وتحاكي واقعنا المرير، ومما لا جدل فيه أن تكون النصوص السينمائية مختارة بعناية وتفانٍ واختيار شخصيات تناسب الأدوار المطلوبة بحيث تبنى المتعة في المشاهدة وليس التسلية والتملّق …فكم كان الكاتب المصري “مصطفى محمود ” على حقّ حين قال : علينا أن نفتح العيون والعقول جيداً، فما أكثر الذين يريدون قتلنا بإسم الفكر والفن.. وما أكثر ما نصفق لأفلام هي الدعارة بعينها، وليس كلُّ ما نقرأ من كتبٍ ونرى من أفلام هي محاولات بريئة لتسليتنا.