كتبت ليندا حمورة | وطنٌ تُروى حدوده بالدم لا يُمكن أن يُساوم عليه أحد …
ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية
في الجنوب، حيث تُرسم حدود العزة بدماء الأبطال، لا مجال للحياد ولا وقت للمزايدات. هناك، لا تُكتب البطولات على الورق، بل تُخطّ على الأرض بدماء الشهداء، وتُحفر في ذاكرة التاريخ بوجوه الأمهات اللواتي يحفرن بأظافرهن بين الركام بحثًا عن بقايا فلذات أكبادهن. أيّ كلماتٍ يمكن أن تزيّف وجع أمّ تقف عند حاجزٍ عسكري، تستجدي الجنود بأن يسمحوا لها بالدخول لتبحث عن جسد ابنها؟ أيّ قلمٍ قادرٌ على تزوير دمعة تسقط من عينها، وقد تحوّلت الدموع إلى لغة المقاومة؟
إنّها ثقافة الحياة الحقيقية، حين تتحوّل الأرض إلى هوية، والتراب إلى نبض، والموت إلى ولادة جديدة للكرامة. هذا ليس مشهدًا عابرًا ولا مسرحية مُفتعلة كما يزعم العملاء والجبناء، بل هو وطنٌ يُعاد تكوينه في كل لحظة، بصرخة امرأة تواجه دبابة، وبقبضة شاب يلوّح في وجه الاحتلال متحديًا، وبقلب أمّ ينبض باسم شهيدها قبل أن ينبض باسمها.
الجنوب ليس مجرّد جغرافيا، بل روحٌ نابضة بالحرية، وساحةٌ لا تعرف الانكسار. كيف لإنسانٍ أن يرى هذه الملحمة ثمّ يتجرّأ على وصفها بالتمثيل؟ أيّ جبنٍ هذا الذي يجعل البعض يغمض عينيه أمام صور العزّة، ويبحث عن عباراتٍ جوفاء ليقلل من قيمة الدم المسفوك من أجل أن يبقى الوطن؟
في الجنوب، الأرض ليست مجرّد مساحة تُرسم على الخرائط، بل هي امتدادٌ لكرامةٍ لا تُشترى ولا تُباع. كل حبّة تراب هناك ممزوجة بدمٍ طاهر، وكل حجرٍ شاهدٌ على قصة صمود. ليست هذه مجرد معركة سلاح، بل معركة هوية ووجود، معركة بين من يدفنون أبناءهم في الأرض ليحيا الوطن، وبين من يدفنون الوطن بأيديهم ليحيا عدوّه.
من يرفض هذه الحقيقة، فليقل لنا: كيف تُكتب الحرية إن لم تكن بدم الشهداء؟ كيف تُحفظ الأرض إن لم تُحمل على الأكتاف كأمانة مقدّسة؟ وكيف تكون الحياة إن لم تكن في مواجهة الموت بكرامة؟
إن كانت هذه هي “ثقافة الحياة” التي يُزايدون بها، فليشهد العالم أنّنا لا نعرف إلا هذه الحياة: حياةٌ تُعاشُ في ميدان الشرف، وتموتُ واقفة، وتُبعث من جديد مع كل شهيد، ومع كل أمٍّ تقبّل جبين ابنها المسجّى، ومع كل يدٍ تمتدّ لتحمل حفنة من تراب الوطن وكأنها تحتضن روحها.
هذا هو الجنوب، وهؤلاء هم أهله، ومن لم يفهم حتى الآن، فلينظر جيدًا إلى عيون الأمهات هناك… وليصمت!