ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية
جلست قربه أسأله عن صحته، فأجابني بحكايات كثيرة، عن زمن لا يشبه حاضرنا، زمن كانت فيه السواعد لحمل الأثقال لا للشاشات الناعمة، وكانت السعادة محصورة بتأمين قوتهم اليومي وليس برحلة إلى جورجيا أو إلى أنطاليا أو اسطنبول …ولم يكن هناك أسواق سوداء ودولار يحتل البلاد بل كانت ” كمشة القمح ” تستبدل بالبيض، وعلبة العدس تستبدل بالطحين وهكذا كانت حياتهم قاسية ولكنها تشعرهم باللين …
إنّه جدّي الذي شارف عمره القرن، لم يزر جدّي الطبيب إلا مرات قليلة ، ولم يحمل كيس الدواء الذي نحمله نحن الذين لم نصل لنصف عمره، جدي ما زال يحمل ” المنكوش” وينكش الأرض، وهو يحتفظ بقصص كثيرة مرت في حياته؛ كان يحدثني وينظر إلى وجهي وكلما ابتسمت له، راح يسترسل أكثر وأكثر في الحديث وكأنه يريد أن يشكو عذاب السنين بساعة مع حفيدته . أخدني جدّي في رحلة جميلة كنت أتخيل كل تفاصيلها، كيف كان يحمل البضائع على كتفه ويجوب أحياء القرى، وكيف كانت النساء يعرفنه باسمه فكنّ حين يطل من البعيد يقلن ها قد أتى نمر، نعم نمر هو اسم جدي، ولم يكن والده مخطئا حين أعطاه هذا الاسم . لم يكن في ذلك الزمن سيارات أجرة كثيرة فبينما كان جدي يجوب إحدى قرى الجنوب حاملاً على كتفه البضائع تأخر الوقت ولم يعد هنالك من يوصله إلى المنزل فراح يسرح خلف البراري إلى أن وجد كومة من أكياس الخيش الممتلئة بالقش وكان من بينها كيس غير ممتلىء فأفرغه على الأرض ونام في العراء متلحفاً بكيس الخيش عله يقيه من برد الليل وما إن استلقى حتى بدأت الذئاب تعوي فلم يكترث لعويلها وانتظر حتى بزوغ الفجر وخرج مسرعاً قبل أن يأتي أحدهم ويرى أنه أفرغ الكيس على الأرض. ساعة من الحديث مع جدّي مضت دون أن أشعر بمرور الوقت، ودون أن يتوقف لسانه عن الكلام وكأنه ظمآن ورأى أمامه الماء ولم يكتف بارتشاف كمية صغيرة…
جدّي واحد من مسنين كثر جميعهم بحاجة إلى العطف والحنان، جميعهم بحاجة لمن يصغي لهم ويستمع لشكواهم، إنهم مجلدات من التاريخ لم تدونها الكتب، إنهم موسوعة من المعالم التاريخية التي تتحفنا بفهم الماضي وحياة الأجداد، أطال الله بعمر جدي وبأعمار جميع المسنين الذين ينيرون حياتنا ببساطتهم .