تكنولوجيا

كتبت ليندا حمورة | كبارنا… الذاكرة التي لا يجب أن تبهت

ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية
حضنته وقلت له: “ابتسم، ها أنا ألتقط لك صورة.” ابتسم تلك الابتسامة التي لا يشوبها زيف، ابتسامة تختصر قرنًا من الحياة، من الحكايات، من الحب والألم معًا. وحين دنوت منه بشاشة الهاتف لأريه الصورة، أمسك بمنديل ورقي كان بجانبه وقال لي: “حطيلي ياها هون، لشوفها منيح.”
في تلك اللحظة، أدركت أن جدي لا يرى الصورة كما أراها، لا تعني له شاشة مضيئة بقدر ما تعني له ورقة يحملها بين يديه، يلامس ملامحه كما لو كان يتحسس عمره الطويل المنعكس أمامه، كما لو كان يريد أن يعيد تشكيل ماضٍ لم يخذله كما تفعل الحاضر. ربما في نظره، التقنية لا تساوي شيئًا أمام ملمس الذكريات الحقيقي، فالصورة على الورق تشبه روحه… ملموسة، حقيقية، لا يمكن أن تمحى بلمسة إصبع.
نعم، إنه جدي، ذلك الرجل الذي لطالما تحدثت عنه بكل شفافية وصدق، لأنني أؤمن أن كبارنا هم الرواية التي يجب ألا تُطوى، هم الشموع التي تحترق لتضيء لنا الطريق، هم الجذور التي تمسك الأرض كي لا تقتلعنا رياح الحياة.
في زمنٍ أصبحنا نركض فيه خلف كل جديد، ننسى أحيانًا أن هناك من يجلس في زاوية الزمن، ينتظر من يصغي، من يمنحه لحظة من وقته، من يوقظ في قلبه ذلك الدفء الذي بدأ يخفت مع مرور الأيام. لا يعنيني مجالسة أصحاب النفوذ والمناصب بقدر ما تعنيني جلسة هادئة مع رجل تجاوزته السنوات لكنه لم يتجاوزه الشغف بالحياة، مع امرأة تحمل في تجاعيد وجهها ألف حكاية تنتظر من يقرأها.
كبارنا ليسوا مجرد أشخاص عاشوا قبلنا، بل هم نحن… في المستقبل. كل لحظة نقضيها معهم هي استثمار في ذكرياتنا القادمة، كل كلمة ينطقون بها هي درس مجاني في الصبر، في الحب، في معنى البقاء رغم كل شيء.
إنهم ثروة، لكنهم ثروة لا تباع ولا تشترى، بل تُصان، تُحفظ، وتُعاش بكل تفاصيلها. لأنهم حين يرحلون، لن تبقى سوى صور معلقة، وأصوات متلاشية في أروقة الذاكرة، وسنجد أنفسنا نحاول استعادة ملامحهم من غبار الزمن، حينها فقط سندرك كم كنا فقراء وسط انشغالنا عنهم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى